٢٨‏/١٢‏/٢٠٠٧

الخروج من الصندوق ... ما العمل ؟

تروي قصة يتداولها الناس في مصر أن حاكما سأله ابنه كيف تحكم هذا الشعب !؟ فطلب الحاكم من ابنه ان يحضر صندوقا به كتاكيت ، وسأله هل تستطيع ان تلقيها علي الارض وتجمعها ؟ واعتبر الابن انه اختبار للسرعه ، والقي الكتاكيت علي الارض ، فتشتت جمعها ، ولم يلحق الابن بها ووجد نفسه ملقي علي الارض ، ونظر لوالده نظرة الخاسر المهينه ، فدعاه اباه للنهوض ، واحضر صندوقا آخر به ايضا كتاكيت ، وقال لابنه انظر ماذا افعل ، واخذ يرج الصندوق بشده ، حتي فقدت الكتاكيت قدرتها علي التوازن للوقوف علي اقدامها ، والقي بها علي الارض ، فلم تبرح مكانها ، واخذ يجمعها ويعيدها الي الصندوق ، وابنه ينظر اليه في دهشه. وبعدما انتهي قال له هل وصلت اليك اجابتي عن سؤال كيف احكم هذا الشعب ؟

وفي العلوم الاداريه وادارة الازمات يوصف المتعاملون مع الازمه بانهم داخل صندوقها ، حيث تتفاعل عناصرها ، وفي اتون التفاعلات ، تختلط الامور ، ويتشعب الفكر بين ما هو مسبب للازمه ، وما هو ناتج عنها ، وتقول الاداره في هذا الشأن ، بوجوب الخروج من الصندوق واعادة الاشياء الي اصولها.

وفيما يجري من حولنا تقفز مقولة الشاعر الهندي تاغور "الصخرة المتدحرجه لا ينبت عليها عشب". وبنظرة سريعة للعناصر المكونه للصورة من حولنا نجد ثلاثة فقط لا ينطبق عليهم وصف الصخرة المتدحرجه " حزب الله والمقاومه اللبنانيه وجبهة المعارضه ، وايران ، واسرائيل " ، ويبدو أن موقف "سوريا وحماس" ، مازال داخل الصندوق أو هو ، في حالة ما قبل التدحرج ، ولم تتم زحزحته بعد وان كانت اجراءات التعويم جاريه عليه للوصول به الي حالة التدحرج بطريقة كيسنجر "الخطوة خطوة" ، والتي اتبعها من قبل مع السادات وآتت نتائجها كما اراد كيسنجر.

والغريب في الامر أن الانظمة العربيه ، والادارة الامريكيه ، تنطبق عليها مقولة تاغور . نجح المخطط الامريكي في اتباع نصيحة الحاكم العربي لابنه ، واستخدامها في كل ما يخص العرب ، ولكن الادارة الامريكيه ، رغم كل مؤسساتها ومراكزها البحثيه والقوه العسكريه الضخمه علما وبشرا ومعدات ، والاعتمادات الماليه التي تجاوت التريليون دولار، رغم كل هذا فقد عمدت بداية القرن الامريكي بنعيق الغربان وفقدت حظها مع رئيسها الذي بات اشبه "بالكتكوت الذي فقد توازنه" ، او كما يطلقون عليه هناك " البطة العرجاء ".

يتعلم الطالب في اول دروس ميكانيكا المواد ، ان الفعل (الحركه) ينشأ عن قوة لها مقدار وتؤثر في اتجاه ، ووصل العلم ايضا الي "نظرية الفوضي" ليخرج منها بقوانين يمكنها وضع معادلة رياضيه لاشكال السحاب في السماء او ما ترسمه حركة الامواج علي رمال الشواطئ من اشكال ، واقر العلم بان ما لا يمكن قياسه فهو غير موجود. هكذا وصلت الحياه ، علم بلا حدود ، وليس كلام بلا مسئوليه. ولو حاولنا قراءة اللاعبين في منطقتنا من منهم تحكمه قوانين الفعل ، او حتي قوانين الفوضي ، ومن هو خارجها ، ربما يمكننا الاجابه علي سؤال لينين الشهير "ما العمل؟".

حسب قوانين الحركه ، الاتجاه اي "الهدف" ، "وقوه" قادره علي التأثير ، وفي حال اعتبار البعد الانساني والاجتماعي ، يدخل معامل الرغبه ، أي "إرادة الفعل" ، وهو يتضمن القبول بدفع الثمن ، او تقدير المخاطر التي تعترض تحقيق الهدف ، وقدرة التعامل معها.

ثلاثة لاعبون نتعرض لمحاولة قياس افعالهم وحركتهم :

اولا : حزب الله والمقاومه اللبنانيه وجبهة المعارضه ، ووضعوا هكذا لاحتواء دوائر الاهداف الثلاث "الموقف من الكيان الصهيوني وبالتبعيه المهمه القوميه ، والمهمه الوطنيه في مواجهة هذا العدو ، ثم الموقف في الدوله اي الموقف السياسي الداخلي".

حزب الله يدرك ان الكيان الصهيوني استعمار استيطاني ، وان فلسطين عربيه والقدس عربيه وان الكيان الصهيوني يسعي الي فرض نفوذه ، وان مطامعه في الارض والماء والبشر والهيمنه لا حدود لها وليس لها من رادع الا القوه ، وفي كل المهام المترتبه علي طبيعة الصراع ، لا يفهم العدو الا منطق القوه ، ورغم طبيعة الظروف المحيطه اقليميا وعالميا وحتي فلسطينيا ، فان الاعداد لما هو قادم ، وهو صدام بالحرب ، يوجب ضرورات الاعداد وفق العلم ، وبكل ما يمكن ان يكون متاحا من ادوات و تحالفات لا تصادر القرار ولكنها تمكن من بناء القوه وتدعمها. ولان الحرب ليست مجردة من البشر ، فالاصل هو الانسان وعليه فإن البيئه المحيطة يجب ان تملك ذات العقيده القتاليه. وترتيبا علي تجربة المواجهة العسكريه الصيف الماضي ، ثم الانتقال السلس من العمل العسكري الي العمل الاجتماعي فور وقف اطلاق النار ، اعطي مصداقية التوازن.

اي ان هناك ما يمكن قياسه ، فهو بالتالي فاعل ، له هدف ، يوفر له الامكانات ، يرغب في تحقيقه اي انه يمتلك الاراده ، ودفع الثمن ، اي قبل بالمخاطرة التي يفرضها عليه خياره ، رغم ان فعله في الصيف الماضي كان قبولا بالتحدي الذي فرضه عليه العدو ، وهو امر يعظم من قيمة ما تم.

وتنضوي العناصر الاخري من المقاومه اللبنانيه ضمن ذات الاطار الوطني للتحليل ، وان لم تعلن كامل استراتيجية المواجهة مع العدو الصهيوني. وفي هذا الاطار يصبح الحديث عن سلاح المقاومه ، نوعا من الهرطقه ، وموقف حزب الله من سلاح المقاومه هو موقف الوجود من العدم.

وتبقي جبهة المعارضه والتي اثبتت ان هدفها في المشاركه بالحكم واضح ، وان العدو هو الكيان الصهيوني ، وان الوطن لن يكون آمنا الا بالقدره علي مواجهة العدو ، وان المقاومه "حق وواجب" ، وان الخارج ، اي خارج له مصالحه ، وقوة المعارضه تتمثل في قدرتها علي الحشد ، ومصداقية تقييم الآخرين. وما يضاف لحسابها انها لم تفقد الطريق ما بعد حرب يوليو 2006 ، رغم الضغوط الخارجيه ، ورغم القرصنه الداخليه.

وكانت تهديدات بوش الاخيره معيار القياس علي الوجود والحركه معا ، ولعل هذا الطرف الفاعل ، قرأ تهديد بوش ونفاذ صبره وحسب كافة الاحتمالات ، ولكنه عاجل برد الفعل علي ماهو سياسي. امر آخر يمكن قياسه ، فهو موجود.

ثانيا : ايران ، ليس الحساب في الشأن الايراني ، حساب الحرب قادمه ام لا ، ولكن البحث هل هي طرف موجود وفاعل ، وهل هناك ما يمكن قياسه ؟. الاجابه نعم ، حيث اعلنت ايران ان انتاج الكهرباء من محطة بوشهر النوويه يبدأ في 21 مارس 2008 (الموعد الذي كان يري المراقبون ان الهجوم الامريكي الاسرائيلي يمكن ان يحدث خلاله) ، وهذا امرا يمكن قياسه. وقيمته ان لايران رؤيه واتجاه هو الوصول الي التكنولوجيا النوويه ، وما يستتبعها علي كافة المحاور ، وانها لن تكتفي باستخدام الطاقه النوويه لمحطات توليد الكهرباء بل ستذهب الي تخصيب اليورانيوم ، وهو ما ذهبت اليه ومحور الصراع ، وخاضت فيه معركة شرسه دبلوماسيا ، وقبلت فيه بمخاطر المواجهة العسكريه مع امريكا ، ووصل رئيسها احمدي نجاد الي اعلان الموقف الايراني من اسرائيل ، وان علي الغرب ان يأخذهم الي اوروبا ليقيموا هناك ، وان فلسطين والقدس ليست مكانا لهم.

الي هذا الحد وصل التحدي الايراني ، ولكن ايران استخدمت كل ما تملك فيه ، ولانها تعلم انها بصدد مواجهة عسكريه ، فتكاد تكون ايران دولة تحت السلاح ، لا مكان للترف ، ولا مكان لصراعات الصغار. هدف وقوه من وراءه وعقيدة تحميه وشعب يحتضن الاداء .. هي طرف فاعل ، يمكن قياس نتائج الاداء فهي طرف موجود وليس العدم.

ثالثا : اسرائيل ، الحديث هنا حول ما تديره اسرائيل وتفعله في اطار تصور تملكه ، وتبدو اسرائيل انها الدوله الوحيده التي تملك سلاحا نوويا قابلا للاستخدام ، وهي الدوله الوحيده التي اسقطت من الاعتبار ، القانون الدولي ، او حكمة "ماذا يريد ان يسمع العالم فنقوله له" ، ووضعت قاعدة اساسيه لوجودها ، ان ما يتطلبه هذا الوجود يجب توفيره ، وبأي ثمن. واسرائيل هي دولة تحت السلاح ، ولا تخفي ذلك. وهي تذهب الي كل الاتجاهات وبكل الوسائل ، مفاوضات ، حرب ، حشد العالم الغربي ، قتل ، بناء حائط شارون الممتد 700 كيلومتر ، الحفر تحت الاقصي ، الحصار ، بناء المستوطنات في الارض المحتله بعد 1967 ، بل ايضا وبوضوح الفصل الواضح بين العرب وفلسطين. كل هذا موجود ويجري الحشد من وراءه وليس هناك ترف الكلام ، بل اجندة عمليات عسكريه وسياسيه واستيطانيه ، وابعد من ذلك فقد وجدت لنفسها مكانا فوق جغرافيا المواجهه القادمه ، حرب المياه. هي طرف فاعل ، يمكن قياس نتائج اداءه فهي طرف موجود وليست العدم.

ثلاثة اطراف يمكن وصفهم انهم اطراف فاعلة ،لان هناك ناتج يمكن قياسه لادائهم ، ولاننا نري لهم اهدافا واضحه ، قبل بها العالم ام لم يقبل ، ولكن الاهم توافر ارادة الفعل ومقوماته ، وإعمال هذه الاراده لتحقيق الاهداف.

هذه محاولة للاقتراب من الاجابه عن سؤال ما العمل ؟ وللحديث بقية انشاء الله.

مصطفي الغزاوي

نشر بالشرق القطريه 25/12/2007