غيوم سوداء وأمطار حمضيه
تتجمع في سماء الارض العربيه غيوم يزداد لونها سوادا، تنذر بسيول حمضيه ستحرق الحرث والزرع، بعض الغيم أنزل زخات حمضيه، ، ومازالت الغيوم حبلي، ولم تصحوا السماء، بينما لونها يشتد سوادا.
احتلت وقائع سوداء مشهد الانتخابات المصريه، لا يُنقِصْ من سوئها تصريحات هنا او هناك، ولكن ذلك ما عشناه، ورأيناه، وأدركناه بدون نقل او روايات منقحة او مزودة بإضافات التشويق، الوقائع جميعها تؤكد أن جيل اكتوبر قد اندثر، وأهال عليه التراب جيل الوارثون بدون حق ولا شرعية، وأن المسأله ليست اصطياد سمكة "القرش الأخوانيه" كما يدعون، فهي لا تعدوا سمكة انتجها المزارعون في أحواض خاصه، لم تتغذي غذاءا طبيعيا، وصار لحمها مترهلا، لسكونها وخلودها الي الهدوء فليس هناك ما يدفعها الي الحركه من سعي الي الرزق أو تعامل مع الخطر، ولم يضعوا في أحواضها كما يقول المثل الالماني "سمكة قرموط" كثيرة الحركة والصدام، مما يدفع سمك الاحواض للحركه فيتكون جسمه وينمو وتزداد حيويته، سمكة وديعه جري اصطيادها بالمتفجرات بدلا من شباك الصيد، وأطاحت أصداء الانفجار، بمكونات الحياة الحزبيه، وتداعت التوابع بانقلابات داخل الاحزاب تستهدف أشخاص قياداتها، حيث يسكن الفساد في الرأس كما هي الاسماك، ولا تعرض دون النزع من الكراسي والإحلال شيئا آخر.
مصر لا تنقسم الي عرقيات وقبائل، وحدها النيل، وأضفي النشاط الزراعي علي اهلها نوعا من الصبر والهدوء، يخاله الغريب عنهم أنه الغفلة وقد نالت منهم، أو أنه الموت، ولكنها سمة أهل الري الدائم، والزراعة الناعمه، ومصر عبر التاريخ نسيجا واحدا، لا يداهمها الاقتتال والفتنه الا مصنوعاً، ومستهدفا، وحتي القتل والثأر في مجتمع الصعيد له أصوله وقوانينه، وكان أيضا مجتمع الجريمه والمطاريد في الجبال مجتمعا له قوانين تحكمه ويخيل اليك انه مجتمع له حكماؤه.
وكشفت الانتخابات الأخيره أن الارهاب صار منهج الدوله، وانتقلت البلطجه من الحراسات الشخصيه في اطار الوجاهة، الي تكوين الميليشيات من أدني الاشخاص سلوكا داخل المجتمع، وانتقل الأداء الامني للدوله من حماية المجتمع والامن العام للمواطنين، الي استخدام البلطجه لتنفيذ اهداف التحالف الحاكم، وبإستدعاء المجرمين المحكومين من سجنهم لأداء مهام بين الناخبين والعودة بعدها مع بعض المقابل.
والتباين الحاد بين الوقائع والتفسيرات الرسميه، ينذر بأن القادم من أحداث سيشهد تجاوزات أكثر حده، خاصة عندما يلجأ الكل الي الميليشيات كوسيلة أكثر نجاحا من الاتصال السياسي، وليتطور الفكر البلطجي بتغيير السلاح من سلاح بدائي الي آخر متطور، والموردون علي الحدود جاهزون، فكل سلاح في غير موضعه في مصر هو سلاح لصالح اسرائيل.
أسقطت البلطجه المرشحين الذين لا يريدهم التحالف الحاكم، أسقطت المعارضه، ولكنها في الوقت ذاته أسقطت الجمهورية الثانية والتي امتدت من 1971 الي يومنا هذا، وصارت مصر في حاجة الي شرعية جديدة يكون الشعب قادرا علي دفع ثمنها.
تتابعت الوقائع في الاحزاب الثلاثه التجمع والناصري والوفد وجماعة الاخوان، وكلها تنبئ بأن القادم تنفيسا عن غضب ولا يتجاوز هذا. وخرجت دعوة لتشكيل مجلس نيابي موازٍي، بلا شرح لكيف ولا ممن ولا لماذا؟، "وعادت ريمه الي عادتها القديمه" وخرج الخاسرون في الانتخابات بنداء لوقفه ضد التزوير، الكل فاقد لخطة او رؤية، الكل يلهث وراء كاميرات الاعلام، دون الوعي بأنها لا تغير من الواقع شيئا، وأنه لا تغيير بدون رؤية استراتيجية.
الحقيقه أن تحالف السلطه والثروه لم يكشف عن وجهة وبفجور فحسب بل في الوقت ذاته عري الاحزاب والاخوان، وكشف انهم ظواهر صوتيه، لا جذور لها، ولم يدع التحالف الحاكم وسيله قبل الانتخابات او اثناءها او بعدها إلا واستخدمها لتحقيق اهدافه، لأنه ليس هناك من يملك قوة يمكنها أن تردعه، فيخشاه.
الخطر يتصاعد ويقترب من مصر، ومصر مشغولة في غيوم الردة السوداء، سرقوا نتائج اكتوبر 73، وسرقوا ناتج عرق الشعب علي مدي عشرات السنين، ويسعون الي وأد الإراده، ولم يعد أمام الشعب الا ان يشق لنفسه طريقا واضعا في اعتباره أن الدوله تملك سلاح البلطجه وفقدت واجب الالتزام الدستوري تجاه الشعب وأمنه ومستقبله، وغير هذا هو خداع للنفس.
الاحزاب الثلاثه والجماعه شاركوا في مسرحية الانتخابات الاخيره، شاركوا عن طبيعة تجمعهم مع التحالف الحاكم فالجماعه لم تعرض مشروعا وطنيا، ولكنها تحمل مشروعها الخاص الذي لا يعدوا مجرد التواجد، وكذلك هي الأحزاب التي تصورت أنها بعد أن يؤكل الثور الأبيض سترث عرش الطاووس الذي عاش عليه الثور الابيض ثمانين عاما، نصفهم في أحضان الجمهورية الثانية.
في الحزب الناصري تكرس الانقسام الحادث بين جبهتين، الأولي أطلقت علي نفسها "جبهة الاصلاح والتغيير" والأخري جبهة الأمين العام الحالي، وصار لما يسمي جبهة الاصلاح والتغيير متحدثا رسميا، وأعلنت أنها تملك تفويضا من رئيس الحزب لنائبه، وانها تملك توقيعات 224 عضوا من المؤتمر العام وهي نسبه 45% من اعضائه، وأطلقت علي الطرف الآخر لقب "عميد الفاشلين"، الذي اتهمهم بدوره أنهم مزورون.
كلاهما إذا شاءا صدقا من صديق لهما، لا يصلح أن يبقي، كلاهما وبمكوناته السياسيه والجماهيريه، خارج أي وجود شعبي او قيمة سياسيه، ووجب أن يخلي مكانه، فالفشل ليس في انتخابات مجلس الشعب، ولكن الفشل في ثمانية عشر عاما مضت من عمر الحزب، تآكل خلالها دورا ورثه من حركة التأسيس التي قادها المرحوم فريد عبد الكريم، كانت تتجاوز بحيوتها الاحزاب القائمه، ليصبح علي أيديهم شريكا في جريمة الحكم في مصر، وتآكلت رؤية استراتيجيه وتصور سياسي كان يمثل ركيزة لحركة المقاومه في مواجهة حركة الانقلاب والرده في مصر، وكما ورث الصامتون حركة التأسيس ووأدوها، يسعي 224 عضوا لوراثة الحزب الناصري في مشهد لا يقل عبثيه عن مشاهد البلطجه في الانتخابات.
وتكاد الصوره في حزب التجمع تتكرر، صراع بين رئيس الحزب، وممثلي 20 محافظه، وأيضا الصراع يشتد أواره بعد أن تآكل الوجود الجماهيري للحزب، وأستمرأت قياداته الشكوي من حصار السلطه للأحزاب، ولم يتبقي لها من الفكر اليساري الا العداء لجماعة الأخوان.
وتبقي الخديعتان القادمتان من مجتمع ما قبل الثوره، حزب الوفد وجماعة الأخوان، لا يحمل أيا منهما مشروعا وطنيا، وإن كانت الرطانه بما يسمي الليبراليه والديمقراطيه، أو الالتحاف بالدين، هي حيثيات الوجود، وكلاهما شريكان مع التحالف الحاكم في جريمة البلطجة الانتخابيه بعد ان استدرج كل منهما الآخر الي المشاركه في الانتخابات، ونجح التحالف الحاكم في الايقاع بهما.
شارك الوفد التحالف الحاكم في معركة وأد الاعلام المعارض، وصارت تجربة الدستور هي رأس الذئب الطائر التي اودت بالاعلام الي غياهب "الكلام الأخرس" من باب التنفيس لأي إحتقان يمكن أن يتولد.
وتكاد الجماعة تؤدي دور الترابي وجماعته في السودان، وكأنها ستودي بنا الي التقسيم، وضياع الجنوب، وهي بذاتها لا تحمل مشروعا اجتماعيا وسياسيا واضح المعالم. ويخطئ البرادعي وهو يتوجه بحركته الي الجماعه كي يمنحها قبلة الحياه، فهي في حاجة الي تقييم للذات ومراجعة واجبه، وإلا فهو يهدر دروس الايام الماضيه، ويجمع المتناقضات، ولن يجني الا محصلة العجز.
نجحت جماهير الشعب المصري في ثورة 1919، لانها كانت حركة للأمه، وهي خاصية جري ضربها يالتكتلات التاليه تحت مسميات حزبيه، ولم يبقي الوفد مجرد حزب، ولكنه بقي شاهدا علي خاصية الأمه التي يتسم بها الشعب، حتي بعد أن أصبح حزبا لكبار الملاك، وليس حزب الجلاليب الزرقاء، وهكذا صار الاحتياج الي قيادة تستطيع استدعاء الأمه، وسط طبول وصخب “معارضة السلالم الرخاميه”. طرحنا من قبل بديل التنادي بين قامات قادره علي الحوار وجمع الامه، وكل الرجاء الي اصحاب دعوات ما بعد الانتخابات أن يلتقطوا أنفاسهم، ويصمتوا لبعض الوقت، ولعل الشعب يبدأ العصيان، بالخروج من الاحزاب والجماعات، فهي أضغاث أحلام ليس لها وجود حي.
في حوار مع صديق بالسودان حول أزمة الجنوب والدور المصري قال لي: "الاشكالية ان مصر فى صراع على مدار الساعة، والكيد الاسرائيلى من الداخل والخارج، والكانتونات اللاوطنية فى داخل مصر تصعب المسألة، والراسماليين الجشعين فى مصر يكادوا هم والحكومه المختله ان يطيحوا بالنظام"، ولم يكد ينتهي الحوار بيننا إلا ونقلت وكالات الانباء تصريحات لمسعود البرزاني عن حق تقرير المصير للأكراد في العراق، اسرائيل تجد لنفسها وجوداً في جنوب السودان، وفي شمال العراق، بينما مصر تحاول درأ الحرب الاهليه عن نفسها، وتجاهد أن تسترد الإرادة الوطنيه.
مصطفي الغزاوي
نشرت بالشرق القطريه 14 ديسمبر 2010