٢٨‏/٠٧‏/٢٠١٠

23 يوليو 1952 ... درس "تحرير الارادة"



23 يوليو 1952 ... درس "تحرير الارادة"

فجأه وبدون مقدمات ، وجدت همسا يدور بين إبنتي ووالدتها مؤداه (غدا الساعه السابعه أمام نقابة الصحفيين) ، فأستفسرت ، وجاءني التفسير "وقفة تضامن مع فيروز" لانهم يمنعونها من الغناء ؟؟ فيروز كروان القدس ونسر العودة تمنع من الغناء ؟؟؟ ، وتساءلت : وماذا تنويان ؟؟ وكان الرد حاسما وحازما : سنشارك واعقبت الابنه قائلة : حتي فيروز يريدون حرماننا منها ، وأغلقت باب غرفتها ليتصاعد من خلفه صوت فيروز "سنرجع يوما ... خبرني العندليب".

كان المشهد كقمة جبل الجليد العائم ، الكل في بحر الوقفات الاحتجاجيه ، وفي قول آخر التضامنيه، يشكل جبلا غاطسا للاعماق ، يشمل اوجه الحياة في المجتمع من أسعار الي مرتبات وعلاج وتضامن مع غزه والعراق ورفض لمشروع او ممنوع هنا او هناك ، الكل يعلن موقفه "بوقفة" ، وكأن قانون التطور في المجتمعات صار ضمن قوانين السكون (الاستاتيكا) ، حيث المحصلة الصفريه أي الموت ، وليس ضمن قوانين الحركة (الديناميكا)، حيث تنوع القوه وحيويتها. وذهب بي التفكير الي ما سبق 23 يوليو وأدي اليه ، وكيف اته لم ينتهي الي وقفة احتجاجيه؟؟ ومن أين استمد حيويته ؟؟ وقدرة الفعل ، ووصل لتحقيق ما كان حينها أضغاث أحلام يكتبها بعض المناضلين في يوميات يخفونها تحت بلاطات منازلهم خشية مداهمة تكشف جريمة التفكير في الثوره ، وكتابة الفكره علي الورق!!!

واستدعيت من الذاكرة ما كتبه جمال عبد الناصر في فلسفة الثوره " بأنهم في خنادق الفالوجا بفلسطين أدركوا أن الطريق لتحرير فلسطين يمر عبر القاهره" ، وسط طلقات النيران كان يتحدد الهدف والمسار " رؤيه " كانت واجبة حينها للبدأ في الاجابة عن سؤال "كيف : ما العمل؟"
ويعود عبد الناصر في قول آخر أنهم قرروا"تجريد الملك من الجيش ، العصا التي يواجه بها الشعب" ، ويحدد خالد محي الدين في موضع ثالث "أن الاداه كانت تنظيم الضباط الاحرار والذي تشكل من مجموعة ذات انتماءات سياسيه واجتماعيه مختلفه ، إجتمعت علي اهداف مباشره للثوره" . من خنادق الفالوجا الي ليلة الثوره ، ارتبطت فلسطين بالاهداف الست للثوره. هناك في خنادق الفالوجا كان الدرس الاساسي " تحرير الاراده " ، فليس منطقيا لأي طرف في أي صراع كان أن يمارس دوره وإرادته منقوصه ، ويحكمها غيره ، وحاكمها تتباين اهدافه ونواياه مع طبيعة الصراع الذي نخوض ، فحيث يجب المواجهة ، يدير ظهره للعدو ، وحيث يتوقع القتال ، يبني قصورا رخاميه في ميدان القتال.

"تحرير الارادة" هو العنوان المناسب لصباح 23 يوليو 1952 ، هو جوهر الصراع ، وهو ما تحقق يومها . "والشعوب لا تحرر إرادتها لتضعها في متاحف التاريخ" ، ولكن يعود عبد الناصر ليحدد نطاقاتها الاستراتيجيه الثلاث ، دائرة عربيه ، ودائرة إفريقيه والثالثه إسلاميه ، وتولدت دائرة عدم الانحياز لتكون قاسما مشتركا لحركة التحرر الوطني والتنميه في عالم الاستقطاب الثنائي والحرب البارده.

58 عاما مضت بين صباح تحرير الارادة ، وزمن الوقفات الاحتجاجيه ، أعوام لم تنقضي دون ان تترك آثارها من جراء أحداث جرت خلالها وعادت تطرح من جديد سؤال ما العمل؟ والتاريخ لا يعيد نفسه ، فإن كانت المرة الاولي مأساة ، ففي الثانيه تقارب المهزله ، لن نرصد الواقع العربي الداخلي في اقطاره ، ولكننا سنقارب المشهد عبر ثلاث متغيرات أساسيه ، علها توضح حجم الخطر الذي يحيق بنا دون ان نتخذ موقفا تجاهة ودون اي محاولة للحفاظ علي ارادة حرة :

المشهد الاول : فلسطين وبدون خنادق الفالوجا ..... انتقلت من حركة تحرير الي ترتيبات تسوية ، تراجعت فيها حركة المقاومة الفلسطينيه الي مسميات دولة ، ومتحدثون رسميون امام كاميرات الفضائيات ، بأربطة العنق والياقات البيضاء ، ورئيس سلطة يركب طائرة تغدو وتروح ،بين الصين والبيت الابيض، وخصومته الاساسيه صارت مع ابناء من جلدته يرون المقاومة حقا وواجبا ، وهو يقبل أي شئ وكل شئ إلا أن يذكره أحد بحق او واجب ، خاصة اذا اقترن ذلك بخرق للواجب الامني الذي تفرضه خارطة الطريق عليه ، وهو الواجب الذي يديره تلاميذ الجنرال دايتون في السلطه. ويبلغ الامر بوزير الدفاع الاسرائيلي ، أن يقدم سليمان فياض في مؤتمر هرتيسليا ليعرض لشهادة امام المؤتمر عن أداء حكومته لواجباتها الامنيه ، وعلي الناحية الاخري يخطب ابو مازن في مؤتمر اقتصادي ببيت لحم ، إعمالا لرؤية نتنياهو "أن الحل أمني إقتصادي" ، بينما البحريه الاسرائيليه تهاجم سفينة مرمره التركيه المتجهه الي غزه ضمن قافلة الحريه لكسر حصار غزه ، ويقتل الاسرائيليون عددا من ركابها الاتراك بدم بارد ، ويضيف الدم التركي رباطا جديدا بين غزه المحاصره وتركيا أردوغان . ويلوك العرب حديث خالي المضمون حول وحدة وطنيه بين اطراف فلسطينيه متناقضة الخيارات والرؤي. ويضم المشهد واقع بقاء الجولان السوريه تحت الاحتلال منذ 1967.
مشهد يضاعف من أجراس الخطر ، ونواجه التردي بإدخال قناعة في أنفسنا أن فلسطين قضية تملك مقومات بقاءها في ذاتها ، قناعةغير مبررة إلا بحقيقة التاريخ والجغرافيا والبشر والشهداء. وبدون قناعة البشر بحقائق التاريخ والجغرافيا ، وبدون قناعة البشر أن لكل شئ ثمنه ، وأن الشهداء عبر التاريخ هم وقود المقاومه وأن المقاومه هي السبيل الوحيد لأقرار أي محتل في حق الشعب في أرضه، بدون تلك القناعات ستفقد فلسطين مقومات بقاءها.

المشهد الثاني : دولة كردستان الكبري ، بين تركيا وسوريا والعراق وايران ، تكوين تبدوا فيه المفارقه التاريخيه ، بديل تحرير فلسطين من النهر للبحر وبديل إزالة آثار عدوان 5 يونيو 1967 ، يجري تقسيم العراق ، وقبل اكتمال صورة عراق ما بعد الاجتياح الامريكي ، تتشكل دولة الشمال الكردي بكل الدعم الاسرائيلي والامريكي ، ويصبح رئيس الشمال الكردي ضيف القصور العربيه ، شأنه شأن أيو مازن. ويصبح شمال العراق قاعدة الارتكاز للحركة الكرديه في اتجاه جنوب شرق تركيا وغرب ايران وشمال سوريا. في الاتجاه التركي حزب العمال الكردي ، بلغ به رهان الثقه مداه من جراء الدعم الاسرائيلي له ، وايضا من جراء المواجهة بين اسرائيل وتركيا أردوغان ، لتمتد عمليات الحزب العسكريه الي قاعدة بحريه بالاسكندرونه جنوب غرب تركيا ويقول المراقبون أن هذه العمليه تمت بمعاونة من قمر صناعي ، وأن هذا التعاون مصدره اسرائيل.
وفي اتجاه ايراني ، فالعمليات تقع تحت عنوان إعداد مسرح العمليات لمواجهة المشروع النووي الايراني ، والتعاون هنا يشمل امريكا وانجلنرا واسرائيل ، ويمثل الوجود الكردي البيئه الحاضنه لهذه العمليات والتي في غالبها عمليات مخابراتيه.
مشهد يوحي بأن دولة كردستان الكبري هي كرة ثلج تبدأ من شمال العراق ، لتتدحرج شرقا وشمالا ، بين مصدر دائم للتوتر ، وقاعدة انطلاق اسرائيليه ، كي تصبح نواة دولة الفصل بين تركيا والعراق وايران.
مشهد أجراس الخطر فيه تصم الآذان ، ولكن في الأذان وقر.

المشهد الثالث : تتشابك فصوله حول القرن الافريقي ، وباب المندب ، يمتد شرقا ليشمل اليمن ، ويمتد غربا ليصل بين الصومال ، ومنابع النيل ، وجنوب السودان ودارفور. مشهد يعرض لحقيقة الترابط بين الدائرة العربية وأمنها وبين الدائرة الافريقيه.
اليمن تم الايقاع به داخل ما يطلق عليه استرتيجية مقاومة الارهاب ،وتتفجر دعوة بانفصال الجنوب ، وينشب قتال في صعده ، بين الحكومة والحوثيين ، يجري تحويله الي قتال بين القبائل بعضها البعض ، والطيران الامريكي يختار الاهداف التي يشاء داخل اليمن ليقصفها ، ويصل الي حد اكتشاف أن مواقع مدنيه تم قصفها بواسطة صواريخ كروز التي لا يملكها الجيش اليمني.
ويبقي الاقتتال في الصومال ، وما يسمي بالقراصنه الصوماليين ، وتتحول مياه القرن الافريقي الي بيئه جاذبه لكل الاساطيل ، وتصل غواصتان اسرائيليتان ، لتكمل طريقهما الي بحر العرب و مياه الخليج ، وتصل اصداء كل ذلك الي منابع النيل ، لينفجر الموقف بين دول المنابع ودولتي المصب مصر والسودان.
ويقترب موعد الاستفتاء في جنوب السودان ، وليختار أهلنا في الجنوب بين الانفصال والبقاء في إطار السودان الموحد، وفي ذات الوقت يعلن الرئيس البشير أن حلايب سودانيه ، وتتنمر مصر !!!
جنوب السودان ينفصل ، والبشير ومصر يتنازعان حول حلايب ؟؟؟
في حرب 1973 أغلقت البحريه المصريه باب المندب ، وتحول البحر الاحمر الي بحيرة عربيه، واليوم يتم تقسيم السودان ، والتقسيم من بعد الجنوب سيشمل دارفور وشرق السودان.
قد يري بعض العرب أن القضية الفلسطينيه مسئولية أجيال سبقت ، فكيف يرون الآن السودان و قضاياه هل سيتركونه وسط الرمال المتحركه يضيع قطعة بعد أخري؟؟

ثلاثة نقاط ترسم خريطة التقسيم الجديده ، من القدس الي كردستان وصولا الي جنوب السودان وبحيرة فيكتوريا ، وهي
ذاتها ترسم حدود الاعباء الواقعه علي كاهل العرب ، أعباء لا تواجهها غير إرادة حره ، تملك رؤية لأمنها ، ومجال حيويا تعيش فيه ، ولا تملك ترف التغافل عته.
لم تعد القدس وحدها في دائرة الخطر بل السودان كله دخل دائرة الخطر ، أمر لا تصلح معه وقفات احتجاج ، ولا اغنيات فيروز المصادره ، بل يحتاج الي جيل عربي جديد عله يؤمن بعروبته ، ويملك شجاعة الدفاع عنها ، ويقبل بدفع الثمن.

مصطفي الغزاوي
نشرت بالشرق القطريه 27 يوليو 2010