لا وقت للدموع ... كل الوقت للدم
"وصلت المستشفي ووجدت ابني في العمليات وابوه واخوه في الثلاجه" هكذا اختزلت ام فلسطينيه حال الشعب في غزه ، ابجدية الدم والشهاده ، ولو حاولنا وصف حالات الانفعال او الصراخ او الاتهامات التي ملأت الفضاء تزاحم ارواح الشهداء لما استطعنا ان نحيط بها. ولا يستطيع عاقل القول انه مفاجئ بوقائع القتل في غزه ، ففي هذا المكان وقبيل مؤتمر انابوليس كنا نحذر من هذا المخطط ، بل وكان رأينا يومها ان ابو مازن ومجموعة اوسلو شركاء في هذا المخطط بعد ان وقعوا فريسة تصور عقيم يقول بأن ما أخذه الصهاينه "بالدم" طوال الصراع العربي الصهيوني يمكن استرداد شئ منه "بالكلام". وليس هناك جدوي من الكلام ايضا عن حالة التردي العربي ، ليس مجرد تردي للنظم الحاكمه ولكن ايضا لقواه السياسيه التي استطابت لغو الكلام ، وفقدت قواعدها الشعبيه ، فصارت اقرب الي خيالات "المآته" ، لا خير منها الا الوهم في رؤوس اصحابها.
وليست غزه هي المأساة ، غزه هي الحقيقه ، اما المآسي فهي في تلك المدن التي ترفرف عليها اعلام يقولون انها اعلام الاستقلال العربي ، ولها اناشيد يقولون انها اناشيد وطنيه ، وان هذه المدن هي "العواصم" ، ولم يفسر احد منهم "عواصم لمن ؟ وعواصم ممن ؟ " ، وفي الوقت الذي تدور فيه آلة الكيان الصهيوني ، في كل الاتجاهات تعزز وجودها المستعار فوق الارض ، يدور صراع البقاء بين العواصم العربيه ، وكأن بقاء احدي هذه العواصم يوجب الفناء لغيرها.
ليس هناك فصل بين غزه ولبنان والعراق ودمشق ، الكل في ذات البوتقه ، وفوق ذات النيران ، والراقصون من حول النار يغنون بلغة الضاد علي مزامير بني صهيون. وليس هناك من حاول ان يفسر لنا كل الوقائع التي تجري فوق الارض العربيه لصالح اسرائيل وامريكا وضد المصلحه العربيه.
وحيثما يكون الدم ، تتجسد الحقيقه بلا مواربة ، والبدايه دمشق ، والصراع العربي - العربي حول إنعقاد مؤتمر للقمه العربيه بها ، وكأننا نرجوا من اي مؤتمر للقمه العربيه شيئا ، هي احتفاليات للتردي والصراع الداخلي ، ومن قبل عدوان 1967 كان تقييم تجربة مؤتمرات القمه ان الانظمه المتعاونه والمهادنه لاسرائيل ، استترت بها امام شعوبها ، ولكنها لم تنجز في اطار الصراع العربي الصهيوني شيئا ، واعلن عبد الناصر ذلك في خطابة بجامعة القاهره في 22 فبراير 1967 ، وكان حديثه الي مؤتمر اتحاد المحامين العرب في 27 من الشهر نفسه مؤكدا علي تجاوز آلية مؤتمرات القمه. اي اننا منذ اربعون عاما لا نريد من مؤتمراتهم شيئا ، وحتي مؤتمر الخرطوم ومؤتمر ايلول الاسود كلاهما ما كان لهما نفعا ان لم تكن هناك منظومة عمل تعد سواء للتحرير او لتمكين المقاومه. وسواء دعوا لبنان الي دمشق او لم يدعوه ، وسواء ذهبت السعوديه او لم تذهب ، او انعقدت قمة مصريه سوريه او لم تنعقد ، فهم جميعهم خارج معادلة الصراع ، وليس داخلها الا خزان الدم العربي ، ثمنا للبقاء في مواجهة العجز العربي.
وشاءت الظروف ان تكون دمشق ايضا هي مسرح عملية اغتيال القائد المقاوم "عماد مغنيه" ، وترددت احاديث عن مشاركة عربيه في هذه العمليه !!! ، وصمتت الانظمه العربيه ، ولكن هناك سؤال معلق وهو ايضا حول دور عربي امريكي لم يفسره احد ، وهو دور الرباعي " ديك تشيني – إليوت ابرامز – بندر بن سلطان – زلماي خليل زاده" ، وهي اللجنه التي ادارت اعادة التوجيه في الاستراتيجيه الامريكيه تجاه المنطقه حسب رواية سيمور هيرش وليس من حكاوي القهاوي ، وهذه الآليه ذاتها التي تضمن تمويل العمليات السريه التي يمكن ان تعاني مشاكل تمويليه امام الكونجرس الامريكي. وهل يمكن لاحد من السعوديه ان ينفي لنا وجود هذه الهيئه وبهذه المهام والامكانات ، وهل هناك من يمكنه ان يفسر لنا رسائل المحمول التي طافت بالعرب السعوديين في لبنان تطلب منهم ان يغادروها ؟؟؟ ، وهل هناك من يمكنه ان يفصل بين اغتيال مغنيه وما تحدث عنه من قبل ديفيد بن اليعازر عن استهداف قيادة حزب الله ؟؟؟. الكل يصمت ، ويواري وجهه بعيدا ، ولكن خزان الدم العربي الذي يدفع ثمن البقاء ، سوف يتحول الي طوفان ان استمرأت الخيانه "وخناجر العباءات" قادة المقاومه ... احذروا هذا الاخدود.
ويبقي الدم في غزه اصدق من السلاح الامريكي الصهيوني الذي يقتل ، وهو اصدق من حفنة المرتدين عن شعبهم ووطنهم في السلطه الفلسطينيه وخاصة ذلك الشئ المسمي بوزير اعلام ابومازن. ولهؤلاء ولغيرهم ، ليس هناك في معادلة حروب التحرير ما يمكن تسميته بالتوازن بين قوة الاحتلال وحركة المقاومه ، فاذا كان التوازن أمر مطلوب في ميزان القوي بين الدول ، الا ان مفهومه مختلف عند حركات المقاومه وحركات التحرير. فحركة المقاومه تبدوا من المعني اللفظي انها محاولة اعاقة لاستمرار الاحتلال ، اي ان تكون تكلفة الاحتلال اكبر من ان يتحملها المحتل ، سواء كانت التكلفه بشرا ، او احساسا بالقوه او الامان ، او كانت تكلفة ماديه. وعمليات المقاومه مقوماتها الاساسيه ما يمكن تسميته بالقدره الذاتيه ، فمثلا الحجر لن ينتهي وهو دائم ، لذلك كانت انتفاضة الحجاره تستخدم الارض ومنتجها الطبيعي ، وهذه القدره "الحجاره" ، والاطفال ، هما وقود الانتفاضه الاولي والتي جعلت للحجر بيد الطفل فعل القنبله ، قوة الضعف ، ولكنها بارادة اشتباك مستمره ، وقبول بالشهاده لاحدود له ، مما اصاب آله المواجهة الصهيونيه باعباء بعدد الحجاره وعدد الاطفال. وكذلك ظاهرة "الاستشهادي" ، تلك الظاهره التي جعلت من العنصر البشري ما يساوي قنبلة موجهة ، وبديل الماده والتكنولوجيا ، العقيده القتاليه التي تهيئ المقاوم لمثل هذا الفعل ، وهو فعل اتي ثماره في مواجهة مارينز ريجان في بيروت. وفي زمن المواجهة للاستعمار التقليدي ، كان يكفي ان تكتب علي الحائط "الفدائيون مروا من هنا" ، ليكون معني هذا ان ميزان القوي اصابه خلل.
المقاومه وحرب التحرير خيار إرادي ، ليس ترفا ولا نزقا ، ولكنه وطن يرزح تحت نير الاحتلال ويفرض علي ابناءه واجب المقاومه ، ايا كان الثمن ، ومهما ارتفعت التكلفه ، لذلك لا يقاس امر الانجاز في حروب التحرير باعداد القتلي من الجانبين ، فهل يعقل ان تنسحب القوات الامريكيه من الصومال لان بضعة جنود من قواتها قتلوا وتم سحلهم بالشوارع ؟؟؟ ، وهل يعقل ان ريجان يسحب قواته من لبنان لان 241 جندي من المارينز قتلوا بعمليه استشهاديه ؟؟؟ ، الامر ان ما حدث له دلالة بما سيجري وألقي بسؤال علي قوة الاحتلال : هل انتم علي استعداد لدفع الثمن ؟؟؟ ولانه وجد الاجابة بلا ، قرر الانسحاب ، ذلك لانه قائد ومسئول حتي وان كان محتلا وغاصبا.
وقراءة حركة المقاومه الفلسطينيه ، تبدأ بالاساس من تعريف طبيعة الاحتلال الاستيطاني القائم ، فهو ليس قوة عسكريه تحتل جزءا او كل الوطن ولكنه حالة استيطان كامل لمدة 60 عاما تحت اسم دوله ، ومن قبلها سنوات من المواجهة وذات حال القتل ولكن تحت الانتداب البريطاني ، ويمكن القول ان المقاومه بدأت بالفعل فوق الارض بعد 1967 ، ولكنها كانت محاصرة من الخارج "عربيا" ، بقدر ما كانت مستهدفة بالقتل من المستوطن الصهيوني. وغير ذلك كله فالمقاومه ايضا حالة من الابداع ، تعيد انتاج ظروفها ، وليس مطلوبا من المقاومه الفلسطينيه امتلاك القنبله الذريه في مواجهة السلاح النووي الاسرائيلي ، ولكن ان تملك القدره علي تطوير ما تنتجه من مقذوفات ـ الصواريخ ـ من حيث المدي والقدره التدميريه واخيرا كما قالت اسرائيل "القدره علي التخزين". فما تحاربه اسرائيل وتحاول قتله ليس مجرد الطفل وليس مجرد الحياه فوق الارض ، وليس الوعيد بأن اهل غزه والضفه يتحملون مسئولية وجود المقاومه ، ولكن ما تحاوله اسرائيل بكل آلتها العسكريه فوق كل ذلك ، هو قتل احتمالات التطوير الذاتي لصاروخ المقاومه ، والذي كان وصوله الي عسقلان اشعار بانتاج جديد وتطوير جديد ، والرعب الاسرائيلي اذا امكن تحميل هذه الصواريخ بعبوات كيميائيه ، وليس عبوات متفجره.
الدم الفلسطيني لن يتوقف طالما كان هناك الاحتلال الاستيطاني لفلسطين العربيه ، وطالما كانت هناك ارادة المقاومه لدي الشعب الفلسطيني ، ولكن هذا ليس مبررا للتردي العربي او التآمر العربي علي ارادة المقاومه سواء في لبنان او فلسطين او العراق ، بل ان استمرار الدم الفلسطيني يفرض الارتقاء فعلا وقولا الي مستواه.
مصطفي الغزاوي
نشرت بالشرق القطريه 4/3/2008