٠٥‏/٠١‏/٢٠١١

ما بعد الغضب المفقود !

ما بعد الغضب المفقود !

القلم ليس دائما كمشرط الجراح، فمشرط الجراح ينبغي عليه أن يتجرد من أي إنفعال، وأن يتعامل بعقل ومشاعر بارده، عكس القلم يفقد هذه الصفة خاصة عندما تكون الاحداث ساخنة، وموجعة، وتتجاوز حد القدرة علي احتواءها لعوار شديد ألم ببيئة حدوثها، وعندما يحيط العوار بالمنوط بهم إدارة الأزمه لتجاوزها بأقل الخسائر، وتزداد الازمة تعقيدا عندما يعمدها الدم، فالدم خارج ساحات القتال له رائحة الجريمة والغيله، وعندما يسيل الدم علي الاعتاب المقدسة لدور العباده، يزداد لهيب الاحداث اشتعالا، وتمس الاحداث قداسة المعبود ذاته، وهو ما يصنع عصور الشهداء.

عاد بي عنوان لمقال للاستاذ فهمي هويدي (متي تغضب مصر ؟) الي عنوان لكتاب الاستاذ هيكل (خريف الغضب).

وقرأت عنوان مقال الاستاذ فهمي هويدي، كأنه يسأل: متي تبلغ مصر الرشد ؟، ليس بحثا في أمر العمر بعدد السنين، ولكن في أمر ترجمة الغضب الي فعل، ولعلي اضيف فعل شعبي.

واسترجعت عنوان الاستاذ هيكل وكأنه لا يتحدث عن غضب وقع في خريف 1981، ولكنه كما لو كان ينعي لنا بلوغ الغضب لخريف العمر، ويقارب نهاية الأجل.

في المقال ناقش الاستاذ فهمي هويدي استقبال مصر لنتنياهو رغم ما اعلن مؤخرا عن عملية تجسس اسرائيليه اطلق عليها "الفخ الهندي" المتهم فيها مصري واثنان من الموساد، ولن اناقش الموضوع ولكن المقال حدد الافعال التي تقوم بها اسرائيل وعددها 13 فعل (التجسس – التدمير – الاستيطان – التهويد – التصفية – التنصل – الفضح – الإذلال – الإحتقار – الإزدراء – الفصل – الإختراق – التحريض)، والأفعال المواجهة لها (الاستياء – العتاب) ولم تبلغ الغضب او اعلان الغضب.

والكتاب كان عن فورة غضب متبادله، مرت بربوع مصر في خريف عام 1981، بين سلطة السادات التي اودعت 1536 من المعارضين له في المعتقل فجر الثالث من سبتمبر عام 1981 ولم يكد يمضي شهرا إلا وكان خالد الاسلامبولي ورفاقه يخرجون من بين جنود العرض العسكري في السادس من اكتوبر ويهاجموا منصة العرض، ويقتلوا السادات وهو يرتدي بزة عسكريه، ووسط كل رجال الدوله.

كان غضبا متبادلا، فعل ورد فعل استغرق ثلاثة وثلاثون يوما، وبهتت جذوة الغضب من بعد ذلك.

بعدها قرأنا الفريضه الغائبه للمهندس محمد عبد السلام فرج، وقرأنا التحليل السياسي للواقع الذي كانت تحياه مصر في ذلك الحين، وكلا الورقتين حكمت اتخاذ قرار الاغتيال ومثلتا المقدمات الفكريه والسياسيه لاتخاذ القرار، ومن قرأ ورقة التحليل السياسي، والتي نشرت في الجرائد في حينها، كانت لا تختلف عن أي قراءة سياسيه يقوم بها تنظيم سياسي قومي او يساري، حتي بالالفاظ، أي كانت مصر تملك قراءة واحدة للواقع الذي تحياه، وكانت مصر قريبه من بعضها البعض، متلامسة الاكتاف مع التنوع الفكري والعقائدي، واختار العديد منها فعلا واحدا ونجح احدهم في تنفيذه.

جاءت في الساعة الاولي من العام الجديد انباء عن انفجار امام كنيسة في الاسكندريه، وأن الانفجار أسفر عن اصابات شديده، (وجري دفن 24 جثمان في مقبرة جماعية، ومازال ثمانون مصابا تحت العلاج)، ولا استطيع أن أصف الحاله التي مرت بي وبالعديد من الاصدقاء ونحن نتابع الانباء حتي ظهر اليوم التالي.

وبدا واضحا أن شيئا مختلفا قد حدث، يماثل واقعة أغتيال رفعت المحجوب في نهاية الثمانينات، التي اتسمت بتكتيك وتنفيذ احترافي، وفي يوم أجازة الجمعه، مما أكد في حينها أن هناك معلومات، وهناك تخطيط، وهناك مستويات متعدده من الافراد للتنفيذ، وهناك فوق هذا التأمين والإخفاء من بعد التنفيذ، كانت كل تلك المواصفات مع نجاح العمليه مؤشرا مغايرا، وايضا قي هذا الحادث هناك شيئا ليس من طبيعة هذه العمليات في مصر، حيث صرحت مصادر أمنيه، بعد دراسة موقع الانفجار عن احتمال وجود انتحاري هو منفذ التفجير.

الحادث جاء في أعقاب بعض الوقائع:

1. انه جاء بعد حديث عاموس يادلين، الرئيس السابق للاستخبارات الحربية الإسرائيلية "أمان"، والذي قال فيه: "لقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية فى أكثر من موقع، ونجحنا فى تصعيد التوتر والاحتقان الطائفى والاجتماعى، لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائماً"، ولم يخرج أحد للرد عليه.

2. جاء بعد كشف شبكة التجسس الاسرائيليه، والمتهم فيها مصري واسرائيليين، وأن هذا المصري كشف ان احد المسئولين عن الملف النووي السوري كان عميلا للموساد، وأن اسرائيل هي التي قامت بتخريب خطوط الانترنت التي تخدم الشبكه في مصر، وكان هناك حديثا عن اختراق لشبكة الاتصالات المصريه. وكان هذا الحادث واقعة كاشفة عن صحة تصريحات يادلين، كما انها اعادت الي الاذهان حقيقة الصراع مع العدو الاسرائيلي.

3. انه في اعقاب حادثين مثلا نقطة انقلاب في العلاقة بين الامن وبين المواطنين:

a. حادثة المواجهة بالرصاص بين الامن والمواطنين في الدائرة الانتخابيه التي تقع فيها هذه الكنيسه، وهي الدائره التي يمثلها وزيرا حاليا، وكان في حملته الانتخابيه يزور الكنائس لحشد أصوات الناخبين المسيحيين، ويستعين بداعية اسلامي شاب لحشد أصوات الناخبين المسلمين، أي أنه من حيث لم يدري أكد الانقسام الطائفي، ولم يطرح حديثا سياسيا يستقطب في المواطن أيا كان دينه، لانه لا يملك مقومات هذا الحديث.

b. حادثة العمرانيه، حيث جري صدام بين الامن وحشود من المسيحيين بسبب مبني اداري تحول الي كنيسه، وقتل في الواقعه شابين مسيحيين، وهاجم قرابة الثلاثة ألاف من المسيحيين مبني محافظة الجيزة، وجري القبض علي اعداد منهم، ومازال البعض مقبوضا عليه، وهو أمر اتخذ البابا شنوده موقفا رافضا له، واعتكف في وادي النطرون.

4. وسبق علي الحادثه تأكيدا علي طائفية الشارع في مصر شارك في ذلك الانبا ابشوي والدكتور محمد عماره والاستاذ سليم العوا، وجري تلاسن من الجانبين، وكأن كلاهما لا يتحمل مسئولية تجاة المجتمع وتجاة الوحدة الوطنيه، وزاد من اشتعال الموقف غياب دور الدوله، وتركها الامور علها تذوي جذوتها من ذاتها دون تدخل منها في أدق قضية داخلية في مصر.

5. ان الحادثه جاءت بعد انتخابات مجلس الشعب والتي شهد الجميع فيها ان التزوير كان علنيا ولا يحاول التستر، وأن من أداره هو الجهاز الامني، ورغم ذلك خرجت قيادات الحزب تعلن أنها خاضت تجربة ديمقراطيه ونجحت فيها، وأدرك الشعب أن حالة الكذب لا تراعي ان الناس قد رأت بأعينها، وغير ذلك رأي البعض أن الأعضاء المعينين بالمجلس كان من بينهم مسيحيون لهم موقف من البابا شنوده، وغير هذا استبعدت النائبه "جورجيت قليني" التي وقفت ضد ممارسات "عبد الرحيم الغول" نائب الحزب الوطني والذي اتهم بعلاقة مع المتهم الرئيسي في قضية الهجوم الذي جري في نجع حمادي علي احدي الكنائس هناك، ونجح الغول في دخول المجلس المصنوع بأيديهم.

6. انها جاءت بعد تهديد من القاعده في بلاد الرافدين باستهداف المسيحيين في مصر بعد الحديث عن اختفاء سيدتين مسيحيتين اعلنتا اسلامهن، واختفيتا، وصارا موضوع شحن متبادل، مع غفلة تامه عن مردود هذه المشاحنات، وتهديد القاعده هذا كان يوجب ان تكون اليقظه الامنيه في اعلي حالات الاستعداد.

كان الانفجار وضحاياه نقطة الذروة لكل هذه الوقائع وغيرها، وكان الاستنتاج الوحيد أن هناك دورا للدوله غائبا.

قد يمكن لأي محلل سياسي أن يقول بسقوط نظام حكم، ولكن أن ترتخي قبضة الدوله علي أخطر قضايا الوطن، "مياه النيل والوحده الوطنيه"، فهذا واقعا يؤكد أن خللا مؤكدا قد أصاب الدوله في مصر.

الوقائع السابقه في تكوينها تعرض للعدو وخططه وان هذه الخطط محل التنفيذ وقضية التجسس تؤكد ذلك. وتعرض لغياب التعامل السياسي مع المواطن في مصر، وأن الدور الامني في تزوير الانتخابات، ومواجهة الاحتجاجات والمسيرات بالعتف المسلح، قد أخذ دور الامن بعيدا عن واجباته، ورغم تكرار حوادث التفجيرات الشديده من طابا الي نويبع الي سيناء والصعيد والاسكندريه لمرات متعدده، الا أن وزير الداخليه مازال في مكانه، وكأن كل هذا لا يدلل علي خلل في الاداء، ويكفيه فقط أنه يواجه الحركة السياسيه داخليا. كما أنها تقول أن بعض رجال الدين قد خرجوا عن صحيح الأداء ولم يراعوا مسئولياتهم.

هكذا يدفع ابناء الشعب امام دور العبادة دمهم ثمنا لغياب الدوله في مصر، ولعل هذه الدماء لا تفتح ابواب المعتقلات لحملة مماثلة لحملة سبتمبر 1981 لتكون النهايات بعد 30 عاما كما كانت البدايات وليخرج الينا جديد غير منظور لنا الآن، قد يقود الي حقبة جديده في مصر، يقترب فيها حالها لما يجري في السودان بوابة مصر الخلفيه وعمقها الاستراتيجي، ولعلنا عندها نكتشف كذب الوعد الامريكي بأن حقنا في المياه لن يمسه أحد إذا تحقق انفصال الجنوب، وعد أمريكي بضمانة اسرائيليه!.

لعلنا لم نبدأ عصرا جديدا للشهداء بالدم المسال علي الاعتاب المقدسة لدور العباده الذي يمس قداسة المعبود ذاته، كل ما حولنا يكشف ما جره علي الوطن فقدان القدرة علي الغضب، فماذا لو إنحرفت بوصلة الغضب بين ابناء الوطن.

مصطفي الغزاوي

نشرت بالشرق القطريه 4 يناير 2011

http://al-sharq.com/articles/todaysarticle.php?id=237

الإنسان والأرض والدين... رمال العرب المتحركة

الإنسان والأرض والدين... رمال العرب المتحركة

2010-12-28

الرمال المتحركة تبتلع الارادة العربية وعلينا أن نحدد الأهداف بدقة

يبدو الواقع العربي المحيط، كرجل وقع في بحر الرمال المتحركة، لا يستطيع أن يقف على قدميه، ولا أن يوقف انزلاقه لباطن الأرض، والرمال تضغط من كل الأجناب على رئتيه فلا يستطيع التنفس، وباتت عيناه جاحظتين عاجزتين عن الأبصار، وإذا ما ألقى أحد ممن التفوا حوله حبلا إليه لعله ينقذه، رآه وهما تملأه الأشواك، ومن خشيته أن تؤلمه الأشواك أو تدمي يديه، يستسلم للمضي إلى حتفه، تحت دقات دفوف لا تغني لحنا عربيا على الإطلاق.ـ

بات من التكرار الممل الإطلال على تفاصيل الصورة، في كل الأرجاء العربية، دولا أو أنظمة أو قوى معارضة أو حتى نخبة الثقافة والفكر فيه، فبين الإدانة أو كشف العجز، صارت الكلمات والمعاني تزيد من اتساع بحر الرمال، ليغرق فيه الزمن القادم من قبل أن نصل إليه، بعد أن جرى وأد التاريخ، وصار التاريخ لعنة على صانعيه، وليس درسا للمتعاقبين على الأرض العربية.ـ

هل يذكر أحد معنى الهجرة، طواعية كانت أو قسرية؟، أذكر في طفولتنا عام 1950 وما بعده هجرة داخل مدينة الإسماعيلية، عندما تحاصر القوات البريطانية المحتلة حي "العرب" الذي نسكن فيه للبحث عن الفدائيين، فنهاجر لبضعة أيام إلى أهلنا القاطنين في حي "الإفرنج"، والفارق بينهما شارع. وهجرة أخرى عام 1967 بعد أن كان القصف الصهيوني قد نال من المدينة، وقتل العشرات، ونسف قطار مهاجرين في اليوم التالي ودمر مبنى محطة السكك الحديدية، وأيضا كانت هجرة إرادية، ووصفناها أنها إجراء يحرم العدو من وسيلة الضغط على الإرادة والأعصاب، ولم يهاجر البشر فقط، ولكن تم تفكيك المصانع ومعامل التكرير ونقلها بعيدا عن قصف العدو، وكما تحدث الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان المصرية: "العدو يقصف عشوائيا، فيصيب حيثما تصل قنابله أهدافا، بينما نحن يجب أن نحدد الأهداف ونضبط توجيه القصف لنصيب هدفنا".ـ

هذا معنى الهجرة الذي يمكن أن نضم إليه قصص اللاجئين في كل أرجاء الأرض العربية، ولكن الهجرة الجديدة لم تعد إنقاذا للحياة، ولكنها هجرة من الحياة ذاتها، فكأن مجرد الوجود فوق الأرض العربية هو عدوان في حد ذاته على الإنسان، تمثلت معنى الهجرة من الحياة في مشهد الانتحار بحرق النفس في سيدي بوزيد التونسية، والتدلي مشنوقا من كوبرى على النيل بالقاهرة، والمهاجرون الذين يطلقون عليهم مجازا المنتحرون، متعلمون، ولكنهم يعانون من العدوان على حق الحياة فاختاروا الهجرة الطوعية. فارق بين زمنين، وفارق بين عدوين، أحدهم تهرب بالحياة من قصفاته القاتلة، والآخر عدو تهرب من الحياة لأنك لا تتحمل الوجود معه فوق الأرض.ـ

وجديد الإنسان في الوعي العربي هو حق العودة الذي يقامر به العجز العربي، في مقابل القبول الإسرائيلي بالتفاوض، وتأبى إسرائيل التي نجحت في الانتقال بنا، من شعار من النهر إلى البحر، وشعار صراع الوجود وليس الحدود، إلى استجداء وقف الاستيطان من إسرائيل وأميركا، وتأبى إسرائيل وتقضم الأرض، وتعلن "القوة العظمى" عجزها.ـ

جديد آخر أوضحت الوقائع أنه يصيب الإنسان العربي في أي قطر دونما سابق إنذار، أن الأنظمة لا تملك إلا الأجهزة الأمنية للتعامل معه، حدث في فلسطين هناك في الضفة وفي غزة، وكلا الأطراف مدانة بهذا، وحدث في مصر، تجاه من حاولوا الإدلاء بأصواتهم، ويحدث الآن في تونس من سيدي بوزيد إلى تونس العاصمة، وبقدر ما واجه الأمن وقتل، بقدر ما تنتشر الاعتراضات إلى قطاعات أوسع.ـ

الخشية من الحرب الأهلية في مقالنا السابق، لم نكن نتوقع أن بشائرها ستقع خلال أيام معدودة.

وها نحن ننتقل من إدراك بأن إسرائيل هي العدو الرئيس، وأن فلسطين القضية المركزية، إلى افتقاد الوعي بأرض الوطن والشعب فوق الأرض.ـ

سلاسة التعامل مع قضية الجنوب السوداني، والتسليم بانفصاله، بل وإلباس الانفصال صيغة الفتح الإسلامي وأنه سيمكنهم أن يفرضوا الشريعة الإسلامية في الشمال، هو حديث خارج عن العقل والسياسة والوطن والدين، هو حديث الإفك، فالأوطان ليست محل التجزئة إلا بالتفريط، وليس الدين الهادي للبشر الذين هم الشعب، محل مفاضلة مع الشعوب ويتحقق بنفي جزء من البشر لإتمام سيادة للدين، هذا هو الجهل بمعني الوطن وجهل بالدين، ليس من الشرع التفريط في الأرض، والشعب، وإلباس الهزيمة لباس الاختيار بين الدين واللا دين!ـ

وليس من الجائز الربط بين اختيار السودانيين الانفصال عن مصر وإعلان الاستقلال عام 1956، وبين تقسيم السودان إلى دولتين،فارق بين فك ارتباط وبين تقطيع أوصال.ـ

كما ليس من المقبول أن ندرك ما تفعله أميركا وإسرائيل بشأن الجنوب ودارفور، ونبلع ألسنتنا، مجرد الكلام نفتقده، وكأن البلاهة بديل البلاغة قد نالت من العقل العربي.ـ

وصارت الأمور في قضايا الأوطان تقاس بحجم إنتاج البترول، وبمقدار الثروة، نتعامل مع الأوطان تعامل المحتل، وليس تعامل الوطني المسؤول عن حريتها ووحدتها.ـ

وهي ذات الرؤية في التعامل مع شمال العراق، وإن كان الطريق إلى الانفصال في بداياته، وفاقدي الهوية الوطنية، ومدعي الانتماءات المذهبية يتحكمون في أمر الأرض والشعب، وهم لا يمكنهم استيعاب دلالات الأرض ولا الشعب، ولكنهم يستوعبون الأجندات الخارجية، وهناك الدين المسيحي يقدم لتقسيم جديد غير التقسيم القومي.ـ

استخدمت أميركا الدين في منطقتنا مرتين، الأولى مشاركة مع اليمين العربي الذي كان يواجه معها دعوة القومية العربية بغرض تفريغها من مضمونها القومي والاجتماعي، بما يضمن مصادرة البواعث القومية للمواجهة مع أميركا وإسرائيل، والمرة الثانية لحشد المتطوعين من العرب لقتال السوفييت أثناء احتلالهم لأفغانستان، وكانت المساجد تدعو المتطوعين للسفر إلى أفغانستان للجهاد المقدس ضد الملحدين السوفييت، كان السلاح والتدريب والأموال بلا حساب، فهي حرب المجاهدين بالوكالة عن الأميركان ومدعومة بالأنظمة العربية وثروة البترول العربي، وبعد خروج السوفييت من أفغانستان، نفضت السي آي إيه يدها من المجاهدين الأفغان، وتحول الشباب إلى مواجهة مع أميركا ذاتها من ناحية، ومع الأنظمة التي دفعت بهم من ناحية أخرى، ومنذ وقائع الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتفجير مبنى التجارة العالمي في نيويورك، أطلقت أميركا مقولة "إن الإسلامي قرين الإرهاب". اتفقت أميركا وإسرائيل على هذا المصطلح، وجرى تعميقه، بل وتم حصار الدول العربية على أنها تناصر الإرهابيين وتمولهم، وصارت مدارس القرآن هي البيئة الأساسية للإرهاب في عرفهم، فأغلقوها وطاردوا تلاميذها من أفغانستان إلى كل الدول العربية، وبلغ بهم الأمر إلى المطالبة برفع آيات الجهاد من المصحف الشريف، ووقعت الأنظمة العربية في فخ المواكبة، وتولى عدد من الدول العربية مهمة استجواب المجاهدين في سجون عربية، ومن ناحية أخرى استطابوا ادعاء أن الإرهاب قرين الدين، وجرى تعديل على المناهج التعليمية. واشتعلت إفريقيا والجزيرة العربية والعراق وباكستان وأفغانستان في قتال بين "مجاهدين" ينتمون إلى القاعدة أو منهجها، وبين الاحتلال أو الأنظمة التي يعملون فوق الأرض الواقعة تحت حكمهم، واليمن خير دليل علي ذلك.ـ

هكذا أصبح الدين، وهو أحد مقومات الوجود العربي، وإحدى دعائم وحدته، مبررا للحرب على العرب، لأنه دعوة للإرهاب في عالم السلام غير الإسلامي. واعتبرت المقاومة في فلسطين لونا من الإرهاب، وليست حقا تكفله الشرائع الدولية لمواجهة الاحتلال.ـ

هكذا صار الدين وسيلة يستخدمها الجميع لتبرير مواقفهم مهما كان تناقضها فيما بينها، أو تناقضها مع الدين ذاته.

في حديث الأستاذ هيكل على قناة الجزيرة الخميس الماضي 23 ديسمبر 2010، وهو تاريخ كانت مصر تحتفل فيه بهزيمة العدوان الثلاثي في معركة بورسعيد، تحدث عما سيتبع الاستفتاء الذي سيجري في السودان في التاسع من يناير القادم، وبعد أن نوه عن إمكانية تكاد تكون مؤكدة بانفصال الجنوب، فتح ملف مياه النيل، والمنابع، وحدد أن الملف سياسي من المنابع إلى السد العالي، ومن بعد السد إلى المصب ملف فني.ـ

وللمرة الأولى يعرض الأستاذ هيكل استعداده لأن يتقدم بتصور عن الملف السياسي، المرة الأولى يعرض هيكل أمرا كهذا في تاريخ كتاباته وأحاديثه، وعلى الملأ، الأمر الذي يجب التوقف عنده، إن هناك خطرا من نوع جديد، ولا ينفع معه الأداء العاجز، ولا تصلح له الأداءات الوظيفية، فهل سيجد من يسمع له، أم أن الأجندة الداخلية والإفريقية للنظام لا تسمح بهذا.ـ

هكذا الإنسان والأرض والمياه والدين، صارت رمال متحركة تبتلع الإرادة والقدرة العربية، وبقيت كلمات الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان المصرية: "العدو يقصف عشوائيا، فيصيب حيثما تصل قنابله أهدافا، بينما نحن يجب أن نحدد الأهداف ونضبط توجيه القصف لنصيب هدفنا"، تدوي في الآذان لعلها تصيب انتباها.ـ

مصطفى الغزاوي

نشرت بالشرق القطريه 28 ديسمبر 2010



٢٢‏/١٢‏/٢٠١٠

سيولة الإرادة العربية

سيولة الإرادة العربية

الاحداث الجارية فوق الارض العربيه باختلاف اقطارها "تِنَطَقْ الأخرس" كما تقول اغنيات المقاومة "لأولاد الأرض" بالسويس. ولكن الحالة العربية الآن أفقدت الكلام مضمونه، وأهملت الفعل وحلت مكانه جلسات النواح والبكاء والحياء المنبوذ والتجاوز البذئ علي شاشات الفضائيات، والكل يحيا الفوضي ويقبل بها.

مواكب الوارثون ليست جديده علي المجتمع العربي، فقد سبق أن إنطلقت وتحت أسماء مختلفه في عامي 1967 و1970 عامي هزيمة يونيو، ورحيل جمال عبد الناصر الي رحاب ربه. لم يكن الوارثون في حينها افرادا، أبناءا أو قادمين من المجهول، ولكنهم كانوا تنظيمات وأنظمة، والكل يرفع رايات الثورة العربيه، وينشد أناشيد الثأر والتحرير، ويحمل أموالا ينثرها هنا وهناك، إنتبهوا وتفرغوا لوراثة جمال عبد الناصر، وتركوا أرض المعركة خالية، وكأني بهم قد هبطوا من جبل أحد، فاستادرت خيل العدو وأحاطت بهم، وكان هذا فعلهم في أقرب لحظات الأمه العربيه الي تحقيق الذات في معركة عسكرية تضع اسرائيل في حدود حجمها الطبيعي وكونها عدو غير خارق، وأن العمل الاحترافي الجاد يمكنه أن يكشف القدرات لكل الاطراف.

لم تخسر الامة العربية حالة الحشد من بشر وثروة وقوة وعتاد التي حققتها في 1973، ولكنها خسرت معاييرها، وكأنها قد انتقلت الي المدينة الفاضلة، وألقت السلاح إلا فيما بينها، وتركت العروبة العقيدة التي وحدتها، وتغاضت عن فلسطين قضيتها المركزيه، بل الأدهي من ذلك، أنها وأدت كل الأحزاب والتنظيمات التي احتشد فيها كوادر الامه السياسيه، وتهاوي حزب البعث وجبهة التحرير الجزائريه وطليعة الاشتراكيين والطليعة العربية والاحزاب القومية والشيوعية، ولم يبقي منها إلا أسماء خاليه من المضمون، وخرجت من الاوكار تنظيمات بديلة سواء قادمة من زمن الاحتلال أو هي قادمة بإدعاءات دينيه، وغير كل هذا أنتج الغرب للكوادر العربية عبوات جاهزة، استعاضت عن الفكر السياسي بما يسمي بحقوق الانسان، ومن الانسان حقوق المرأه، ومن الاوطان القوميات والاعراق والاديان، وشكلت لهم أوعية ما سمي بمنظمات المجتمع المدني، ولم تتركهم في العراء، بل أوجدت لهم مرجعيات في اوروبا الاسكندنافيه وهولندا وأمريكا، وأوجدت لهم التمويل من اوروبا وأمريكا، ونجحت في استقطاب كوادر اليسار الشيوعي والقومي، وصنعت منهم نجوم إعلام، بعد أن تم ترويض الارادات وتحويل الافكار.

ولم يتوقف الأمر عند الاحزاب السياسيه أيا ما كانت توجهاتها وتاريخها، ولكنه شمل منظمة التحرير الفلسطينية، وميثاقها، وقياداتها، وجري تصفية كل هذا، وكأن منظمة التحرير الفلسطينية، قررت أن تتجرع السم بيدها وليس بيد اسرائيل. وكما قتلت اسرائيل ابوجهاد وهو قائد انتفاضة الحجارة، ليصنع ابو عمار ما أسماه "بسلام الشجعان"، إنقلب ابو مازن، والذي كان قابعا في هدوء وفي الظلام بينما رجال الثوره يمارسون المقاومه، إنقلب علي ابو عمار، وجلس في الظل حتي يتم تمهيد الأرض له، واجتمع الجميع علي ابو عمار، فبينما كانوا يقررون مبادرة السلام العربيه في قمة بيروت 2002، كان شارون يحاصر ابو عمار ويخنق الارض من حوله حتي تم قتلة، ليأتي أبو مازن ويضع يده في يد قاتليه، وهو في الوقت ذاته يضرب المقاومه والمقاتلين في أعنف عملية تصفية بقيادة الجنرال دايتون.

هذه المشاهد جميعها أكدت أن عملية هدم البناء السياسي والشعبي داخل الامه وفي اقطارها، لم تكن جملة مصادفات التقت في مجري واحد، ولكنها بالقطع منهج جري إعماله، وإنساق الجميع بإرادتهم إلي تنفيذه.

انتهت خطط وراثة الانظمة، وأنشأ المثقفون العرب، مؤتمرات تحت مسميات قوميه واسلاميه، والاسماء تحتوي علي كلمة "الحوار"، الكلام، وهي مؤتمرات يسمع المثقفون العرب فيها انفسهم، ولو بحثت عن الأعضاء لوجدت الأسماء تتكرر في كافة المؤتمرات، وأصبحت هذه المؤتمرات مصدرا للبيانات، وليست معهدا لانتاج كوادر سياسيه مناضله.

لدي الاسرائيليين حائط مبكي واحد، سرقوه من المسجد الاقصي تمهيدا للاستيلاء علي كل المسجد، وأنشأ العرب لانفسهم عشرات حوائط البكاء، في كل الاقطار، وحول كل القضايا، وتفرغوا للطم وشق الصدور، وقرروا الخروج من التاريخ، وفرطوا في الارض، من العراق الي الجولان الي السودان الي سيناء.

غياب المؤسسات السياسيه، وغياب حالة الاستنفار بالمقاومة ياب وغياب اللغ الفلسطينيينن، وقد أنهت أمريكا دورها في الجنوب واستدارت الآن الي دارفور.ئل، ولن يستطيع العرب أن في مواجهة العدو، وغياب لغة محددة وواضحه تعبر عن الرؤية العربيه دون نفاق الغرب باستخدام أدبياته، كل ذلك أصاب الاراده العربيه بحالة سيوله وأفقدها قوامها، وصارت قدرة الفعل العربية حديثا من أحاديث الذكريات.

حالة البشير في السودان وابومازن في رام الله، تدعو الي الرثاء أكثر منها دعوة للادانه. البشير يعرض علي الجنوب حصة الشمال في البترول، مقابل خيار عدم الانفصال، والجنوبيون يرفضون ويقولون العرض جاء متأخرا، ولكن اعرض نفس العرض في ابييه، أي تنازل عن جزء آخر، ويخرج المتحدثون باسم المؤتمر الوطني يقولون ما قاله البشير عن الواقعيه، أن الانفصال هو الاحتمال الارجح. وأبو مازن يهرع الي لجنة المتابعة يسألها ماذا يفعل، بعد الصفعه التي وجهها نتنياهو الي اوباما، ورفضه إيقاف الاستيطان ل 90 يوما مقابل 20 طائره اف 35، وكأن لسان حاله يقول سأحصل علي الطائرات بدون مقابل، واسرائيل لن تتنازل عما في يديها من أرض، فماذا يمكن أن يفعل مجلس الامن او العرب لابي مازن؟ الاجابة لا شئ.

لا يستطيع أحد أن يدين البشير وابو مازن، فأي منهما لم يظهر في المسرح السياسي فجأة، بل كل مراحل الانهيار تمت أمام كل العرب بل وشاركوا فيها وكذلك جامعة الحكومات العربيه، ومن يدين واجب عليه أن يعرض البديل خلال اللحظات الباقيه، وهذا أمر يفوق قدرة خدمة "سليمان" من الجن.

يكاد يكون الافق يحمل للامة العربيه بديلا واحدا هو الحرب الاهليه، ليس فقط في السودان وفلسطين، ولكن في كل القضايا المطروحه، حتي وإن بان للعيان أن هناك اشارات للانفراج، فالحقيقة أن شدة التناقض والتباين في الخيارات تجاه القضايا العربيه، حشدت الشعوب في جانب، وكافة مؤسسات السلطة في الجانب الآخر. وصار الأمر جملة من العلاقات المشوهة، تربط كافة الاطراف، وكأن هناك إدارة خفية توجه العلاقات، وكل النتائج تؤدي الي تفتيت المنطقه الي شظايا.

محمود عباس لن يستطيع ان ينال شيئا، وهوغير مرشح لاتمام الوحدة الوطنيه بين الفصائل الفلسطينيه، لان خياراته تتناقض كليا مع خيارات باقي الفصائل، ولن يستطيع العرب أن يقدموا جديدا يغير موازين القوي، والامر مرشح لحرب اهليه بين القوي الفلسطينيه.

والبشير غير قادر ان يحمي السودان ويمنع الانفصال برشوة ماليه في اللحظات الأخيره، وتكاد تكون رائحة الدم تزكم الانوف في السودان، وقد أنهت أمريكا دورها في الجنوب واستدارت الآن الي دارفور، والامر كذلك مرشح لحرب أهلية إن لم تكن بين الشمال والجنوب فإنها ستكون بين شمال وشمال، لأن إنفصال الجنوب سيترك أثاره الجانبيه علي متخذ القرار في الشمال.

وإن تركنا هذا ونظرنا الي الوضع الداخلي في مصر في اعقاب الانتخابات، لا يجوز أن نقول أن هناك إنسدادا، ولكن المتابع لحال الاحزاب والنخبه، يجد حالة من عدم وضوح الاراده، سيولة، كل من يعن له أن يفعل شيئا يفعلة، وكل ما يجري بعيدا عن احتياج الجماهير، وإنطلق قطار القرارات الهادمة لمجتمع الشعب بداية يالتأمين الصحي، وهو أمر يهدد بصدامات لا رادع لها خاصة وأن القانون قد غاب، وأهدرت الاحكام القضائيه، ولم يعد من سبيل سوي القوة بمعناها البدائي. وأعلن الرئيس المصري أمام المجلس المنتخب مقولة جديده مفادها "كلنا كنا فقراء"، ووجب علي الشعب أن يجد سبيله للانضمام الي حزب "كنا فقراء"، وأيضا لم يعد من سبيل سوي القوة بمعناها البدائي.

بدأت الحرب الأهلية في مصر داخل الاحزاب، وحزبي التجمع والناصري علي وشك الانفجار، والخاسرون في الانتخابات يقفزون فوق الاسباب، ومهام التغيير باعلان البرلمان الموازي، هم مع أنفسهم، والشعب يرصدهم مع الحزب الحاكم في ذات الخندق، ويدفعون جميعهم الشعب ليتولي أمره بيده، فالاحزاب والجماعات والجمعيات جميعها، مسميات والمضمون ذاتي ولا علاقة له بالمجتمع.

هل لنا ان نساعد في نشوب حرب اهليه عربيه عربيه ؟ هل هذا هو الحل ؟ ليمسك من يبقي من العرب بالامر وتنتهي معادلة اللا سلم واللا حرب ، والتي صارت اللا مقاومه واللا دوله، ليس في فلسطين وحدها، ولكن باتساع الخريطه.

هل هناك من يملك تأسيس حركة عربية قادرة علي تجاوز عجز الاحزاب؟ أم ان القدر يفرض العوده لنقطة بداية جديدة في الظلام.

مصطفي الغزاوي

elghazawy@gmail.com

نشرت بالشرق القطريه في 21 ديسمبر 2010