٢٢‏/١٢‏/٢٠١٠

سيولة الإرادة العربية

سيولة الإرادة العربية

الاحداث الجارية فوق الارض العربيه باختلاف اقطارها "تِنَطَقْ الأخرس" كما تقول اغنيات المقاومة "لأولاد الأرض" بالسويس. ولكن الحالة العربية الآن أفقدت الكلام مضمونه، وأهملت الفعل وحلت مكانه جلسات النواح والبكاء والحياء المنبوذ والتجاوز البذئ علي شاشات الفضائيات، والكل يحيا الفوضي ويقبل بها.

مواكب الوارثون ليست جديده علي المجتمع العربي، فقد سبق أن إنطلقت وتحت أسماء مختلفه في عامي 1967 و1970 عامي هزيمة يونيو، ورحيل جمال عبد الناصر الي رحاب ربه. لم يكن الوارثون في حينها افرادا، أبناءا أو قادمين من المجهول، ولكنهم كانوا تنظيمات وأنظمة، والكل يرفع رايات الثورة العربيه، وينشد أناشيد الثأر والتحرير، ويحمل أموالا ينثرها هنا وهناك، إنتبهوا وتفرغوا لوراثة جمال عبد الناصر، وتركوا أرض المعركة خالية، وكأني بهم قد هبطوا من جبل أحد، فاستادرت خيل العدو وأحاطت بهم، وكان هذا فعلهم في أقرب لحظات الأمه العربيه الي تحقيق الذات في معركة عسكرية تضع اسرائيل في حدود حجمها الطبيعي وكونها عدو غير خارق، وأن العمل الاحترافي الجاد يمكنه أن يكشف القدرات لكل الاطراف.

لم تخسر الامة العربية حالة الحشد من بشر وثروة وقوة وعتاد التي حققتها في 1973، ولكنها خسرت معاييرها، وكأنها قد انتقلت الي المدينة الفاضلة، وألقت السلاح إلا فيما بينها، وتركت العروبة العقيدة التي وحدتها، وتغاضت عن فلسطين قضيتها المركزيه، بل الأدهي من ذلك، أنها وأدت كل الأحزاب والتنظيمات التي احتشد فيها كوادر الامه السياسيه، وتهاوي حزب البعث وجبهة التحرير الجزائريه وطليعة الاشتراكيين والطليعة العربية والاحزاب القومية والشيوعية، ولم يبقي منها إلا أسماء خاليه من المضمون، وخرجت من الاوكار تنظيمات بديلة سواء قادمة من زمن الاحتلال أو هي قادمة بإدعاءات دينيه، وغير كل هذا أنتج الغرب للكوادر العربية عبوات جاهزة، استعاضت عن الفكر السياسي بما يسمي بحقوق الانسان، ومن الانسان حقوق المرأه، ومن الاوطان القوميات والاعراق والاديان، وشكلت لهم أوعية ما سمي بمنظمات المجتمع المدني، ولم تتركهم في العراء، بل أوجدت لهم مرجعيات في اوروبا الاسكندنافيه وهولندا وأمريكا، وأوجدت لهم التمويل من اوروبا وأمريكا، ونجحت في استقطاب كوادر اليسار الشيوعي والقومي، وصنعت منهم نجوم إعلام، بعد أن تم ترويض الارادات وتحويل الافكار.

ولم يتوقف الأمر عند الاحزاب السياسيه أيا ما كانت توجهاتها وتاريخها، ولكنه شمل منظمة التحرير الفلسطينية، وميثاقها، وقياداتها، وجري تصفية كل هذا، وكأن منظمة التحرير الفلسطينية، قررت أن تتجرع السم بيدها وليس بيد اسرائيل. وكما قتلت اسرائيل ابوجهاد وهو قائد انتفاضة الحجارة، ليصنع ابو عمار ما أسماه "بسلام الشجعان"، إنقلب ابو مازن، والذي كان قابعا في هدوء وفي الظلام بينما رجال الثوره يمارسون المقاومه، إنقلب علي ابو عمار، وجلس في الظل حتي يتم تمهيد الأرض له، واجتمع الجميع علي ابو عمار، فبينما كانوا يقررون مبادرة السلام العربيه في قمة بيروت 2002، كان شارون يحاصر ابو عمار ويخنق الارض من حوله حتي تم قتلة، ليأتي أبو مازن ويضع يده في يد قاتليه، وهو في الوقت ذاته يضرب المقاومه والمقاتلين في أعنف عملية تصفية بقيادة الجنرال دايتون.

هذه المشاهد جميعها أكدت أن عملية هدم البناء السياسي والشعبي داخل الامه وفي اقطارها، لم تكن جملة مصادفات التقت في مجري واحد، ولكنها بالقطع منهج جري إعماله، وإنساق الجميع بإرادتهم إلي تنفيذه.

انتهت خطط وراثة الانظمة، وأنشأ المثقفون العرب، مؤتمرات تحت مسميات قوميه واسلاميه، والاسماء تحتوي علي كلمة "الحوار"، الكلام، وهي مؤتمرات يسمع المثقفون العرب فيها انفسهم، ولو بحثت عن الأعضاء لوجدت الأسماء تتكرر في كافة المؤتمرات، وأصبحت هذه المؤتمرات مصدرا للبيانات، وليست معهدا لانتاج كوادر سياسيه مناضله.

لدي الاسرائيليين حائط مبكي واحد، سرقوه من المسجد الاقصي تمهيدا للاستيلاء علي كل المسجد، وأنشأ العرب لانفسهم عشرات حوائط البكاء، في كل الاقطار، وحول كل القضايا، وتفرغوا للطم وشق الصدور، وقرروا الخروج من التاريخ، وفرطوا في الارض، من العراق الي الجولان الي السودان الي سيناء.

غياب المؤسسات السياسيه، وغياب حالة الاستنفار بالمقاومة ياب وغياب اللغ الفلسطينيينن، وقد أنهت أمريكا دورها في الجنوب واستدارت الآن الي دارفور.ئل، ولن يستطيع العرب أن في مواجهة العدو، وغياب لغة محددة وواضحه تعبر عن الرؤية العربيه دون نفاق الغرب باستخدام أدبياته، كل ذلك أصاب الاراده العربيه بحالة سيوله وأفقدها قوامها، وصارت قدرة الفعل العربية حديثا من أحاديث الذكريات.

حالة البشير في السودان وابومازن في رام الله، تدعو الي الرثاء أكثر منها دعوة للادانه. البشير يعرض علي الجنوب حصة الشمال في البترول، مقابل خيار عدم الانفصال، والجنوبيون يرفضون ويقولون العرض جاء متأخرا، ولكن اعرض نفس العرض في ابييه، أي تنازل عن جزء آخر، ويخرج المتحدثون باسم المؤتمر الوطني يقولون ما قاله البشير عن الواقعيه، أن الانفصال هو الاحتمال الارجح. وأبو مازن يهرع الي لجنة المتابعة يسألها ماذا يفعل، بعد الصفعه التي وجهها نتنياهو الي اوباما، ورفضه إيقاف الاستيطان ل 90 يوما مقابل 20 طائره اف 35، وكأن لسان حاله يقول سأحصل علي الطائرات بدون مقابل، واسرائيل لن تتنازل عما في يديها من أرض، فماذا يمكن أن يفعل مجلس الامن او العرب لابي مازن؟ الاجابة لا شئ.

لا يستطيع أحد أن يدين البشير وابو مازن، فأي منهما لم يظهر في المسرح السياسي فجأة، بل كل مراحل الانهيار تمت أمام كل العرب بل وشاركوا فيها وكذلك جامعة الحكومات العربيه، ومن يدين واجب عليه أن يعرض البديل خلال اللحظات الباقيه، وهذا أمر يفوق قدرة خدمة "سليمان" من الجن.

يكاد يكون الافق يحمل للامة العربيه بديلا واحدا هو الحرب الاهليه، ليس فقط في السودان وفلسطين، ولكن في كل القضايا المطروحه، حتي وإن بان للعيان أن هناك اشارات للانفراج، فالحقيقة أن شدة التناقض والتباين في الخيارات تجاه القضايا العربيه، حشدت الشعوب في جانب، وكافة مؤسسات السلطة في الجانب الآخر. وصار الأمر جملة من العلاقات المشوهة، تربط كافة الاطراف، وكأن هناك إدارة خفية توجه العلاقات، وكل النتائج تؤدي الي تفتيت المنطقه الي شظايا.

محمود عباس لن يستطيع ان ينال شيئا، وهوغير مرشح لاتمام الوحدة الوطنيه بين الفصائل الفلسطينيه، لان خياراته تتناقض كليا مع خيارات باقي الفصائل، ولن يستطيع العرب أن يقدموا جديدا يغير موازين القوي، والامر مرشح لحرب اهليه بين القوي الفلسطينيه.

والبشير غير قادر ان يحمي السودان ويمنع الانفصال برشوة ماليه في اللحظات الأخيره، وتكاد تكون رائحة الدم تزكم الانوف في السودان، وقد أنهت أمريكا دورها في الجنوب واستدارت الآن الي دارفور، والامر كذلك مرشح لحرب أهلية إن لم تكن بين الشمال والجنوب فإنها ستكون بين شمال وشمال، لأن إنفصال الجنوب سيترك أثاره الجانبيه علي متخذ القرار في الشمال.

وإن تركنا هذا ونظرنا الي الوضع الداخلي في مصر في اعقاب الانتخابات، لا يجوز أن نقول أن هناك إنسدادا، ولكن المتابع لحال الاحزاب والنخبه، يجد حالة من عدم وضوح الاراده، سيولة، كل من يعن له أن يفعل شيئا يفعلة، وكل ما يجري بعيدا عن احتياج الجماهير، وإنطلق قطار القرارات الهادمة لمجتمع الشعب بداية يالتأمين الصحي، وهو أمر يهدد بصدامات لا رادع لها خاصة وأن القانون قد غاب، وأهدرت الاحكام القضائيه، ولم يعد من سبيل سوي القوة بمعناها البدائي. وأعلن الرئيس المصري أمام المجلس المنتخب مقولة جديده مفادها "كلنا كنا فقراء"، ووجب علي الشعب أن يجد سبيله للانضمام الي حزب "كنا فقراء"، وأيضا لم يعد من سبيل سوي القوة بمعناها البدائي.

بدأت الحرب الأهلية في مصر داخل الاحزاب، وحزبي التجمع والناصري علي وشك الانفجار، والخاسرون في الانتخابات يقفزون فوق الاسباب، ومهام التغيير باعلان البرلمان الموازي، هم مع أنفسهم، والشعب يرصدهم مع الحزب الحاكم في ذات الخندق، ويدفعون جميعهم الشعب ليتولي أمره بيده، فالاحزاب والجماعات والجمعيات جميعها، مسميات والمضمون ذاتي ولا علاقة له بالمجتمع.

هل لنا ان نساعد في نشوب حرب اهليه عربيه عربيه ؟ هل هذا هو الحل ؟ ليمسك من يبقي من العرب بالامر وتنتهي معادلة اللا سلم واللا حرب ، والتي صارت اللا مقاومه واللا دوله، ليس في فلسطين وحدها، ولكن باتساع الخريطه.

هل هناك من يملك تأسيس حركة عربية قادرة علي تجاوز عجز الاحزاب؟ أم ان القدر يفرض العوده لنقطة بداية جديدة في الظلام.

مصطفي الغزاوي

elghazawy@gmail.com

نشرت بالشرق القطريه في 21 ديسمبر 2010

0 comments: