٠٥‏/٠١‏/٢٠١١

الإنسان والأرض والدين... رمال العرب المتحركة

الإنسان والأرض والدين... رمال العرب المتحركة

2010-12-28

الرمال المتحركة تبتلع الارادة العربية وعلينا أن نحدد الأهداف بدقة

يبدو الواقع العربي المحيط، كرجل وقع في بحر الرمال المتحركة، لا يستطيع أن يقف على قدميه، ولا أن يوقف انزلاقه لباطن الأرض، والرمال تضغط من كل الأجناب على رئتيه فلا يستطيع التنفس، وباتت عيناه جاحظتين عاجزتين عن الأبصار، وإذا ما ألقى أحد ممن التفوا حوله حبلا إليه لعله ينقذه، رآه وهما تملأه الأشواك، ومن خشيته أن تؤلمه الأشواك أو تدمي يديه، يستسلم للمضي إلى حتفه، تحت دقات دفوف لا تغني لحنا عربيا على الإطلاق.ـ

بات من التكرار الممل الإطلال على تفاصيل الصورة، في كل الأرجاء العربية، دولا أو أنظمة أو قوى معارضة أو حتى نخبة الثقافة والفكر فيه، فبين الإدانة أو كشف العجز، صارت الكلمات والمعاني تزيد من اتساع بحر الرمال، ليغرق فيه الزمن القادم من قبل أن نصل إليه، بعد أن جرى وأد التاريخ، وصار التاريخ لعنة على صانعيه، وليس درسا للمتعاقبين على الأرض العربية.ـ

هل يذكر أحد معنى الهجرة، طواعية كانت أو قسرية؟، أذكر في طفولتنا عام 1950 وما بعده هجرة داخل مدينة الإسماعيلية، عندما تحاصر القوات البريطانية المحتلة حي "العرب" الذي نسكن فيه للبحث عن الفدائيين، فنهاجر لبضعة أيام إلى أهلنا القاطنين في حي "الإفرنج"، والفارق بينهما شارع. وهجرة أخرى عام 1967 بعد أن كان القصف الصهيوني قد نال من المدينة، وقتل العشرات، ونسف قطار مهاجرين في اليوم التالي ودمر مبنى محطة السكك الحديدية، وأيضا كانت هجرة إرادية، ووصفناها أنها إجراء يحرم العدو من وسيلة الضغط على الإرادة والأعصاب، ولم يهاجر البشر فقط، ولكن تم تفكيك المصانع ومعامل التكرير ونقلها بعيدا عن قصف العدو، وكما تحدث الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان المصرية: "العدو يقصف عشوائيا، فيصيب حيثما تصل قنابله أهدافا، بينما نحن يجب أن نحدد الأهداف ونضبط توجيه القصف لنصيب هدفنا".ـ

هذا معنى الهجرة الذي يمكن أن نضم إليه قصص اللاجئين في كل أرجاء الأرض العربية، ولكن الهجرة الجديدة لم تعد إنقاذا للحياة، ولكنها هجرة من الحياة ذاتها، فكأن مجرد الوجود فوق الأرض العربية هو عدوان في حد ذاته على الإنسان، تمثلت معنى الهجرة من الحياة في مشهد الانتحار بحرق النفس في سيدي بوزيد التونسية، والتدلي مشنوقا من كوبرى على النيل بالقاهرة، والمهاجرون الذين يطلقون عليهم مجازا المنتحرون، متعلمون، ولكنهم يعانون من العدوان على حق الحياة فاختاروا الهجرة الطوعية. فارق بين زمنين، وفارق بين عدوين، أحدهم تهرب بالحياة من قصفاته القاتلة، والآخر عدو تهرب من الحياة لأنك لا تتحمل الوجود معه فوق الأرض.ـ

وجديد الإنسان في الوعي العربي هو حق العودة الذي يقامر به العجز العربي، في مقابل القبول الإسرائيلي بالتفاوض، وتأبى إسرائيل التي نجحت في الانتقال بنا، من شعار من النهر إلى البحر، وشعار صراع الوجود وليس الحدود، إلى استجداء وقف الاستيطان من إسرائيل وأميركا، وتأبى إسرائيل وتقضم الأرض، وتعلن "القوة العظمى" عجزها.ـ

جديد آخر أوضحت الوقائع أنه يصيب الإنسان العربي في أي قطر دونما سابق إنذار، أن الأنظمة لا تملك إلا الأجهزة الأمنية للتعامل معه، حدث في فلسطين هناك في الضفة وفي غزة، وكلا الأطراف مدانة بهذا، وحدث في مصر، تجاه من حاولوا الإدلاء بأصواتهم، ويحدث الآن في تونس من سيدي بوزيد إلى تونس العاصمة، وبقدر ما واجه الأمن وقتل، بقدر ما تنتشر الاعتراضات إلى قطاعات أوسع.ـ

الخشية من الحرب الأهلية في مقالنا السابق، لم نكن نتوقع أن بشائرها ستقع خلال أيام معدودة.

وها نحن ننتقل من إدراك بأن إسرائيل هي العدو الرئيس، وأن فلسطين القضية المركزية، إلى افتقاد الوعي بأرض الوطن والشعب فوق الأرض.ـ

سلاسة التعامل مع قضية الجنوب السوداني، والتسليم بانفصاله، بل وإلباس الانفصال صيغة الفتح الإسلامي وأنه سيمكنهم أن يفرضوا الشريعة الإسلامية في الشمال، هو حديث خارج عن العقل والسياسة والوطن والدين، هو حديث الإفك، فالأوطان ليست محل التجزئة إلا بالتفريط، وليس الدين الهادي للبشر الذين هم الشعب، محل مفاضلة مع الشعوب ويتحقق بنفي جزء من البشر لإتمام سيادة للدين، هذا هو الجهل بمعني الوطن وجهل بالدين، ليس من الشرع التفريط في الأرض، والشعب، وإلباس الهزيمة لباس الاختيار بين الدين واللا دين!ـ

وليس من الجائز الربط بين اختيار السودانيين الانفصال عن مصر وإعلان الاستقلال عام 1956، وبين تقسيم السودان إلى دولتين،فارق بين فك ارتباط وبين تقطيع أوصال.ـ

كما ليس من المقبول أن ندرك ما تفعله أميركا وإسرائيل بشأن الجنوب ودارفور، ونبلع ألسنتنا، مجرد الكلام نفتقده، وكأن البلاهة بديل البلاغة قد نالت من العقل العربي.ـ

وصارت الأمور في قضايا الأوطان تقاس بحجم إنتاج البترول، وبمقدار الثروة، نتعامل مع الأوطان تعامل المحتل، وليس تعامل الوطني المسؤول عن حريتها ووحدتها.ـ

وهي ذات الرؤية في التعامل مع شمال العراق، وإن كان الطريق إلى الانفصال في بداياته، وفاقدي الهوية الوطنية، ومدعي الانتماءات المذهبية يتحكمون في أمر الأرض والشعب، وهم لا يمكنهم استيعاب دلالات الأرض ولا الشعب، ولكنهم يستوعبون الأجندات الخارجية، وهناك الدين المسيحي يقدم لتقسيم جديد غير التقسيم القومي.ـ

استخدمت أميركا الدين في منطقتنا مرتين، الأولى مشاركة مع اليمين العربي الذي كان يواجه معها دعوة القومية العربية بغرض تفريغها من مضمونها القومي والاجتماعي، بما يضمن مصادرة البواعث القومية للمواجهة مع أميركا وإسرائيل، والمرة الثانية لحشد المتطوعين من العرب لقتال السوفييت أثناء احتلالهم لأفغانستان، وكانت المساجد تدعو المتطوعين للسفر إلى أفغانستان للجهاد المقدس ضد الملحدين السوفييت، كان السلاح والتدريب والأموال بلا حساب، فهي حرب المجاهدين بالوكالة عن الأميركان ومدعومة بالأنظمة العربية وثروة البترول العربي، وبعد خروج السوفييت من أفغانستان، نفضت السي آي إيه يدها من المجاهدين الأفغان، وتحول الشباب إلى مواجهة مع أميركا ذاتها من ناحية، ومع الأنظمة التي دفعت بهم من ناحية أخرى، ومنذ وقائع الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتفجير مبنى التجارة العالمي في نيويورك، أطلقت أميركا مقولة "إن الإسلامي قرين الإرهاب". اتفقت أميركا وإسرائيل على هذا المصطلح، وجرى تعميقه، بل وتم حصار الدول العربية على أنها تناصر الإرهابيين وتمولهم، وصارت مدارس القرآن هي البيئة الأساسية للإرهاب في عرفهم، فأغلقوها وطاردوا تلاميذها من أفغانستان إلى كل الدول العربية، وبلغ بهم الأمر إلى المطالبة برفع آيات الجهاد من المصحف الشريف، ووقعت الأنظمة العربية في فخ المواكبة، وتولى عدد من الدول العربية مهمة استجواب المجاهدين في سجون عربية، ومن ناحية أخرى استطابوا ادعاء أن الإرهاب قرين الدين، وجرى تعديل على المناهج التعليمية. واشتعلت إفريقيا والجزيرة العربية والعراق وباكستان وأفغانستان في قتال بين "مجاهدين" ينتمون إلى القاعدة أو منهجها، وبين الاحتلال أو الأنظمة التي يعملون فوق الأرض الواقعة تحت حكمهم، واليمن خير دليل علي ذلك.ـ

هكذا أصبح الدين، وهو أحد مقومات الوجود العربي، وإحدى دعائم وحدته، مبررا للحرب على العرب، لأنه دعوة للإرهاب في عالم السلام غير الإسلامي. واعتبرت المقاومة في فلسطين لونا من الإرهاب، وليست حقا تكفله الشرائع الدولية لمواجهة الاحتلال.ـ

هكذا صار الدين وسيلة يستخدمها الجميع لتبرير مواقفهم مهما كان تناقضها فيما بينها، أو تناقضها مع الدين ذاته.

في حديث الأستاذ هيكل على قناة الجزيرة الخميس الماضي 23 ديسمبر 2010، وهو تاريخ كانت مصر تحتفل فيه بهزيمة العدوان الثلاثي في معركة بورسعيد، تحدث عما سيتبع الاستفتاء الذي سيجري في السودان في التاسع من يناير القادم، وبعد أن نوه عن إمكانية تكاد تكون مؤكدة بانفصال الجنوب، فتح ملف مياه النيل، والمنابع، وحدد أن الملف سياسي من المنابع إلى السد العالي، ومن بعد السد إلى المصب ملف فني.ـ

وللمرة الأولى يعرض الأستاذ هيكل استعداده لأن يتقدم بتصور عن الملف السياسي، المرة الأولى يعرض هيكل أمرا كهذا في تاريخ كتاباته وأحاديثه، وعلى الملأ، الأمر الذي يجب التوقف عنده، إن هناك خطرا من نوع جديد، ولا ينفع معه الأداء العاجز، ولا تصلح له الأداءات الوظيفية، فهل سيجد من يسمع له، أم أن الأجندة الداخلية والإفريقية للنظام لا تسمح بهذا.ـ

هكذا الإنسان والأرض والمياه والدين، صارت رمال متحركة تبتلع الإرادة والقدرة العربية، وبقيت كلمات الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان المصرية: "العدو يقصف عشوائيا، فيصيب حيثما تصل قنابله أهدافا، بينما نحن يجب أن نحدد الأهداف ونضبط توجيه القصف لنصيب هدفنا"، تدوي في الآذان لعلها تصيب انتباها.ـ

مصطفى الغزاوي

نشرت بالشرق القطريه 28 ديسمبر 2010



0 comments: