٠٥‏/٠١‏/٢٠١١

ما بعد الغضب المفقود !

ما بعد الغضب المفقود !

القلم ليس دائما كمشرط الجراح، فمشرط الجراح ينبغي عليه أن يتجرد من أي إنفعال، وأن يتعامل بعقل ومشاعر بارده، عكس القلم يفقد هذه الصفة خاصة عندما تكون الاحداث ساخنة، وموجعة، وتتجاوز حد القدرة علي احتواءها لعوار شديد ألم ببيئة حدوثها، وعندما يحيط العوار بالمنوط بهم إدارة الأزمه لتجاوزها بأقل الخسائر، وتزداد الازمة تعقيدا عندما يعمدها الدم، فالدم خارج ساحات القتال له رائحة الجريمة والغيله، وعندما يسيل الدم علي الاعتاب المقدسة لدور العباده، يزداد لهيب الاحداث اشتعالا، وتمس الاحداث قداسة المعبود ذاته، وهو ما يصنع عصور الشهداء.

عاد بي عنوان لمقال للاستاذ فهمي هويدي (متي تغضب مصر ؟) الي عنوان لكتاب الاستاذ هيكل (خريف الغضب).

وقرأت عنوان مقال الاستاذ فهمي هويدي، كأنه يسأل: متي تبلغ مصر الرشد ؟، ليس بحثا في أمر العمر بعدد السنين، ولكن في أمر ترجمة الغضب الي فعل، ولعلي اضيف فعل شعبي.

واسترجعت عنوان الاستاذ هيكل وكأنه لا يتحدث عن غضب وقع في خريف 1981، ولكنه كما لو كان ينعي لنا بلوغ الغضب لخريف العمر، ويقارب نهاية الأجل.

في المقال ناقش الاستاذ فهمي هويدي استقبال مصر لنتنياهو رغم ما اعلن مؤخرا عن عملية تجسس اسرائيليه اطلق عليها "الفخ الهندي" المتهم فيها مصري واثنان من الموساد، ولن اناقش الموضوع ولكن المقال حدد الافعال التي تقوم بها اسرائيل وعددها 13 فعل (التجسس – التدمير – الاستيطان – التهويد – التصفية – التنصل – الفضح – الإذلال – الإحتقار – الإزدراء – الفصل – الإختراق – التحريض)، والأفعال المواجهة لها (الاستياء – العتاب) ولم تبلغ الغضب او اعلان الغضب.

والكتاب كان عن فورة غضب متبادله، مرت بربوع مصر في خريف عام 1981، بين سلطة السادات التي اودعت 1536 من المعارضين له في المعتقل فجر الثالث من سبتمبر عام 1981 ولم يكد يمضي شهرا إلا وكان خالد الاسلامبولي ورفاقه يخرجون من بين جنود العرض العسكري في السادس من اكتوبر ويهاجموا منصة العرض، ويقتلوا السادات وهو يرتدي بزة عسكريه، ووسط كل رجال الدوله.

كان غضبا متبادلا، فعل ورد فعل استغرق ثلاثة وثلاثون يوما، وبهتت جذوة الغضب من بعد ذلك.

بعدها قرأنا الفريضه الغائبه للمهندس محمد عبد السلام فرج، وقرأنا التحليل السياسي للواقع الذي كانت تحياه مصر في ذلك الحين، وكلا الورقتين حكمت اتخاذ قرار الاغتيال ومثلتا المقدمات الفكريه والسياسيه لاتخاذ القرار، ومن قرأ ورقة التحليل السياسي، والتي نشرت في الجرائد في حينها، كانت لا تختلف عن أي قراءة سياسيه يقوم بها تنظيم سياسي قومي او يساري، حتي بالالفاظ، أي كانت مصر تملك قراءة واحدة للواقع الذي تحياه، وكانت مصر قريبه من بعضها البعض، متلامسة الاكتاف مع التنوع الفكري والعقائدي، واختار العديد منها فعلا واحدا ونجح احدهم في تنفيذه.

جاءت في الساعة الاولي من العام الجديد انباء عن انفجار امام كنيسة في الاسكندريه، وأن الانفجار أسفر عن اصابات شديده، (وجري دفن 24 جثمان في مقبرة جماعية، ومازال ثمانون مصابا تحت العلاج)، ولا استطيع أن أصف الحاله التي مرت بي وبالعديد من الاصدقاء ونحن نتابع الانباء حتي ظهر اليوم التالي.

وبدا واضحا أن شيئا مختلفا قد حدث، يماثل واقعة أغتيال رفعت المحجوب في نهاية الثمانينات، التي اتسمت بتكتيك وتنفيذ احترافي، وفي يوم أجازة الجمعه، مما أكد في حينها أن هناك معلومات، وهناك تخطيط، وهناك مستويات متعدده من الافراد للتنفيذ، وهناك فوق هذا التأمين والإخفاء من بعد التنفيذ، كانت كل تلك المواصفات مع نجاح العمليه مؤشرا مغايرا، وايضا قي هذا الحادث هناك شيئا ليس من طبيعة هذه العمليات في مصر، حيث صرحت مصادر أمنيه، بعد دراسة موقع الانفجار عن احتمال وجود انتحاري هو منفذ التفجير.

الحادث جاء في أعقاب بعض الوقائع:

1. انه جاء بعد حديث عاموس يادلين، الرئيس السابق للاستخبارات الحربية الإسرائيلية "أمان"، والذي قال فيه: "لقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية فى أكثر من موقع، ونجحنا فى تصعيد التوتر والاحتقان الطائفى والاجتماعى، لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائماً"، ولم يخرج أحد للرد عليه.

2. جاء بعد كشف شبكة التجسس الاسرائيليه، والمتهم فيها مصري واسرائيليين، وأن هذا المصري كشف ان احد المسئولين عن الملف النووي السوري كان عميلا للموساد، وأن اسرائيل هي التي قامت بتخريب خطوط الانترنت التي تخدم الشبكه في مصر، وكان هناك حديثا عن اختراق لشبكة الاتصالات المصريه. وكان هذا الحادث واقعة كاشفة عن صحة تصريحات يادلين، كما انها اعادت الي الاذهان حقيقة الصراع مع العدو الاسرائيلي.

3. انه في اعقاب حادثين مثلا نقطة انقلاب في العلاقة بين الامن وبين المواطنين:

a. حادثة المواجهة بالرصاص بين الامن والمواطنين في الدائرة الانتخابيه التي تقع فيها هذه الكنيسه، وهي الدائره التي يمثلها وزيرا حاليا، وكان في حملته الانتخابيه يزور الكنائس لحشد أصوات الناخبين المسيحيين، ويستعين بداعية اسلامي شاب لحشد أصوات الناخبين المسلمين، أي أنه من حيث لم يدري أكد الانقسام الطائفي، ولم يطرح حديثا سياسيا يستقطب في المواطن أيا كان دينه، لانه لا يملك مقومات هذا الحديث.

b. حادثة العمرانيه، حيث جري صدام بين الامن وحشود من المسيحيين بسبب مبني اداري تحول الي كنيسه، وقتل في الواقعه شابين مسيحيين، وهاجم قرابة الثلاثة ألاف من المسيحيين مبني محافظة الجيزة، وجري القبض علي اعداد منهم، ومازال البعض مقبوضا عليه، وهو أمر اتخذ البابا شنوده موقفا رافضا له، واعتكف في وادي النطرون.

4. وسبق علي الحادثه تأكيدا علي طائفية الشارع في مصر شارك في ذلك الانبا ابشوي والدكتور محمد عماره والاستاذ سليم العوا، وجري تلاسن من الجانبين، وكأن كلاهما لا يتحمل مسئولية تجاة المجتمع وتجاة الوحدة الوطنيه، وزاد من اشتعال الموقف غياب دور الدوله، وتركها الامور علها تذوي جذوتها من ذاتها دون تدخل منها في أدق قضية داخلية في مصر.

5. ان الحادثه جاءت بعد انتخابات مجلس الشعب والتي شهد الجميع فيها ان التزوير كان علنيا ولا يحاول التستر، وأن من أداره هو الجهاز الامني، ورغم ذلك خرجت قيادات الحزب تعلن أنها خاضت تجربة ديمقراطيه ونجحت فيها، وأدرك الشعب أن حالة الكذب لا تراعي ان الناس قد رأت بأعينها، وغير ذلك رأي البعض أن الأعضاء المعينين بالمجلس كان من بينهم مسيحيون لهم موقف من البابا شنوده، وغير هذا استبعدت النائبه "جورجيت قليني" التي وقفت ضد ممارسات "عبد الرحيم الغول" نائب الحزب الوطني والذي اتهم بعلاقة مع المتهم الرئيسي في قضية الهجوم الذي جري في نجع حمادي علي احدي الكنائس هناك، ونجح الغول في دخول المجلس المصنوع بأيديهم.

6. انها جاءت بعد تهديد من القاعده في بلاد الرافدين باستهداف المسيحيين في مصر بعد الحديث عن اختفاء سيدتين مسيحيتين اعلنتا اسلامهن، واختفيتا، وصارا موضوع شحن متبادل، مع غفلة تامه عن مردود هذه المشاحنات، وتهديد القاعده هذا كان يوجب ان تكون اليقظه الامنيه في اعلي حالات الاستعداد.

كان الانفجار وضحاياه نقطة الذروة لكل هذه الوقائع وغيرها، وكان الاستنتاج الوحيد أن هناك دورا للدوله غائبا.

قد يمكن لأي محلل سياسي أن يقول بسقوط نظام حكم، ولكن أن ترتخي قبضة الدوله علي أخطر قضايا الوطن، "مياه النيل والوحده الوطنيه"، فهذا واقعا يؤكد أن خللا مؤكدا قد أصاب الدوله في مصر.

الوقائع السابقه في تكوينها تعرض للعدو وخططه وان هذه الخطط محل التنفيذ وقضية التجسس تؤكد ذلك. وتعرض لغياب التعامل السياسي مع المواطن في مصر، وأن الدور الامني في تزوير الانتخابات، ومواجهة الاحتجاجات والمسيرات بالعتف المسلح، قد أخذ دور الامن بعيدا عن واجباته، ورغم تكرار حوادث التفجيرات الشديده من طابا الي نويبع الي سيناء والصعيد والاسكندريه لمرات متعدده، الا أن وزير الداخليه مازال في مكانه، وكأن كل هذا لا يدلل علي خلل في الاداء، ويكفيه فقط أنه يواجه الحركة السياسيه داخليا. كما أنها تقول أن بعض رجال الدين قد خرجوا عن صحيح الأداء ولم يراعوا مسئولياتهم.

هكذا يدفع ابناء الشعب امام دور العبادة دمهم ثمنا لغياب الدوله في مصر، ولعل هذه الدماء لا تفتح ابواب المعتقلات لحملة مماثلة لحملة سبتمبر 1981 لتكون النهايات بعد 30 عاما كما كانت البدايات وليخرج الينا جديد غير منظور لنا الآن، قد يقود الي حقبة جديده في مصر، يقترب فيها حالها لما يجري في السودان بوابة مصر الخلفيه وعمقها الاستراتيجي، ولعلنا عندها نكتشف كذب الوعد الامريكي بأن حقنا في المياه لن يمسه أحد إذا تحقق انفصال الجنوب، وعد أمريكي بضمانة اسرائيليه!.

لعلنا لم نبدأ عصرا جديدا للشهداء بالدم المسال علي الاعتاب المقدسة لدور العباده الذي يمس قداسة المعبود ذاته، كل ما حولنا يكشف ما جره علي الوطن فقدان القدرة علي الغضب، فماذا لو إنحرفت بوصلة الغضب بين ابناء الوطن.

مصطفي الغزاوي

نشرت بالشرق القطريه 4 يناير 2011

http://al-sharq.com/articles/todaysarticle.php?id=237

0 comments: