مصر ... السؤال الكبير (1)
هل ما زال العمال والفلاحين والمهنيين والحرفيين والطلاب والجنود هم قوي التغيير؟ أم أن التحولات المعاصره قد طالت القدرات والانتماءات؟
الكاتب كلما طرح سؤالا، إستدعت الإجابة عليه أسئلة متعدده، تحاول في مجمل بحثها كشف حقيقة المكنون من قدرات بشريه وفكريه وحركيه داخل المجتمع، هذا أمر الكاتب، ولكن قيادة التغيير لا تطرح الاسئله للبحث المجرد، ولاستمرار الغوص حتي تكشف أغوار المجتمع، ولكنها تطرح الاسئلة بغرض مباشر يبين لها أين تكمن قوة حركة التغيير، وأين تكمن القوة المضادة للتغيير. وهو ما يطلق عليه تقدير الموقف. ورجالات الحرب يعددون عناصر تقدير الموقف، ودائما ما يربطون بينها وبين الوقت، الزمن. ولعلنا نذكر ما سمي بخطة الخداع الاستراتيجي في حرب اكتوبر 1973، والتي نجحت في التخفي حتي وصلت الي الوقت الميت في الساعات الاخيره قبل بدأ العمليات، وهو الوقت الذي لو كشف العدو حقيقة التوجه الهجومي، لم يستطع أن يحول دون تحقيق الهجوم لاهدافه، لان اعادة امتلاك العدو لزمام الامور يحتاج منه وقتا أكير وهو غير متاح.
ولعلنا نلحظ أن الاتجاه الي تولية ابن الرئيس وهو ما أطلق عليه التوريث لفقدانه أي مبرر شرعي بمعني القبول العام من الشعب أو بمعني التعبير عن القوي الاجتماعيه الغالبه، إستخدم ذات خطة الخداع الاستراتيجي في مواجهة محاولة كشف حقيقة الاتجاه الي التوريث من عدمه، في 1973 كانت الخطة لخداع العدو وتمكين الوطن من تحرير الارض، وهذه المره هي خداع للشعب لتزييف الاراده الوطنيه، الفارق شاسع بين الموقفين، ولكنه يحدث الآن ولا تجدي معه الاعتراضات الكلاميه ولا الصرخات والاتهامات، ولكن ما يجدي هو الاعداد لتقليل حجم الخسائر، والاعداد للخطوه التاليه للرد علي عملية التوريث ، قد تتكامل المهمتان في زمن واحد ، وقد يمتد بهما الزمن ، ولكن ما يجب هو الوعي بواجب "إزالة العدوان علي الارادة الوطنيه" وإستردادها لصالح الشعب.
الاجابه علي سؤال قوي التغيير وجب أن تكون بالايجاب، نعم ما زال العمال والفلاحين والمهنيين والحرفيين والطلاب والجنود هم قوي التغيير، وإن لم يكونوا هؤلاء هم أصحاب المصلحة في التغيير، فمن أين يستمد التغيير شرعيته؟ وإذا فقدت حركة التغيير شرعيتها من مجتمعها وقواه الطبيعيه التي دفعت ثمن الاستقلال، ثم ثمن التنميه، ومن بعد دفعت ثمن التحرير، وها هي الآن تسعي لاسترداد ما سلبه الانقلاب "الساداتي ــ المباركي" من حقوقها وثرواتها تحت نفس الاناشيد والاعلام والشعارات، وأنتقلنا عبر ثلاث شرعيات تبرر للسلطه وجودها، الشرعية الثوريه والشرعيه الدستوريه ثم شرعية أكتوبر، وخلال الاربعين عاما الماضيه كتبنا دستورا وانقلبنا عليه، وقمنا ببيع ما بناه الشعب بعرقه وصبره قطاعا عاما منتجا، وسلمنا للعدو ما حررناه بالعرق والدم وأرواح الشهداء.
هم يسلمون أمور الوطن لحفنة من القراصنه، ويتهمون من عداهم بتهديد الامن والسلم الوطنيين.
يقول البعض متهكما أن الدعوه للتغيير وبقوي المجتمع المنتجه أشبه بمحاولة إعادة التاريخ الي الوراء، وأن ما نحن بصدده من تغيرات لا راد لها الا محاولة التعايش معها، وهذه الدعوه الجريمه هي مماثلة لحركة جواسيس التتار الذين كانوا يسبقون جيوشه للعمل خلف الخطوط، ينالون من وحدة الشعب، يفككون روابطه، يقوضون أدواته الانتاجيه، يغتالون قادته، يهدمون الروح المعنويه لاهل البلاد وقدرتهم علي الحياه والمقاومه حتي إذا ما وصلت جيوش التتار كفتها العمليات خلف الخطوط مشقة القتال فيباشروا القتل.
ونسأل هؤلاء السؤال العكسي، هل ما حدث من متغيرات في المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا هو حالة من التطور ومواكبه لحركة التاريخ؟، أم أنها إنقلاب عكسي ضد التطور ،ونهب جديد للمجتمع وقدراته، وانقلاب في معادلة الأمن التي تفرضها حقائق الجغرافيا والتاريخ والمخاطر المحيطه بنا.
هكذا استخدم التحالف الحاكم كل الادوات في تقويض قوي المجتمع، وهدم الروح المعنويه، والانقضاض علي المؤسسات الجماهيريه، وترك قوي التغيير تبحث عن كيف تواجه ما يراد بها وقد تحقق منه الجزء الاكبر، والادهي أن التحالف الحاكم أيضا فرض علي من يريد البحث عن إجابة محددات تمنعه من حرية التفكير واستخدام كافة البدائل.
الجنود في معادلة قوي التغيير هم رمانة الميزان، وإلتزامهم الوطني إلتزام دستوري، الوطن اولا، وليس الذوات الحاكمه، وهذا الدور يجعل الوعي بحقيقة ما يجري في المجتمع او يراد به هو مصدر إنحيازهم، وهم الذين يدركون من هو العدو، ولا يملكون ترف خداع النفس بشأنه، ويدركون إحتياجاتهم من بشر وعتاد وتدريب وعمق إقتصادي وترابط مجتمعي، ومن هنا فإن الزعم بأن هناك من يملك القرار لهم دون الوعي بحقائق الامور، هو إدعاء لا يملك أحد عليه دليلا، لا نقول أنهم محايدين، ولكن إنحيازهم لصحيح الشرعيه الشعبيه، ولا يملكون مبرر الخروج عليها لصالح أحد أيا ما كان، فالاوطان أكبر من أي فرد، ومن أي تصور كان، والجيش من الشعب وليس جيشا من جنود مستوردين من خارج الوطن.
والمؤسسة العسكرية بعيدا عن أي طموح إمبراطوري، تملك التاريخ العسكري الذي يؤسس بالاضافة الي معطيات الجغرافيا وضرورات التنميه والنمو وتداعيات المخاطر المحيطه والتي تصل الي امتلاك العدو الرئيسي للاسلحة النوويه، وعجرفته وإختراقاته للامن العربي، وعسكرته علي الحدود في السودان او فلسطين او داخل البحر الاحمر والقرن الافريقي ومنابع النيل، كل ذلك يفرض علي المؤسسه العسكريه خيارات لا تتفق واحتياجات أثرياء الاراضي وشوربة كنور ومستحضرات التجميل.
وفي مصر غير القوات المسلحه مؤسستان لا تملكان الا التعامل الواضح مع الاخطار المحيطه بمصر، كانت وزارة الخارجيه واحدة منهما وليست الآن محل مراجعة، والثانيه هي جهاز الدفاع الوطني، وهو المكمل للقوات المسلحه والذي يعيش حالة الحرب والمواجهة أيام السلم قبل الحرب وأثناءها وبعدها، وهو أيضا عمق مضاف لرمانة الميزان الوطني داخل المجتمع، وخبرته بالعدو ومخططاته للنيل من مصر والمنطقه، ورؤيته الاستراتيجيه تفرض عليه عدم التسليم أيضا لتجار الاراضي والشوربه وادوات التجميل بالتسلط علي المجتمع.
وهذا يحول بين فرسان مالطا وتوني بلير وشركات المرتزقه العسكريه من الانفراد بمصر والاقليم لصالح خطط لم تنتهي بعد من تقسيم الاوطان عبر تفتيت الشعوب.
ويمنع أي إحتمال لفراغ يهدد أمن الوطن ،وهو ما يفتح الباب علي مصراعيه لحركة القوي الاجتماعيه من أجل التغيير، ويضع حدودا لأي محاولة للمغامرة الداخليه من قوي يمكن أن يتسرب اليها إحساسا أنها إمتلكت مصير مصر والقرار فيها ،وليس أوضح وأكثر جلاءا من الموقف في تخصيص أرض الضبعه لصالح أول محطة نوويه مصريه بقرار جمهوري مخالفة لكل ما سعي اليه تكتل استخدام الضبعه لصالح السياحه والذي يقف وراءه مليونيرات الحكومه والحزب الوطني، وكذلك القرار السيادي باعادة دراسة التعامل مع أراضي الدوله ،وحكم المحكمه الاداريه العليا ببطلان عقد هيئة المجتمعات العمرانيه الجديده مع الشركه المالكه لمشروع "مدينتي" ،وهذه دلالات أن صراعا يجري ولهذا الصراع ضحاياه وآخرهم المستشار ممدوح السقا نائب رئيس مجلس الدوله الذي قضي نحبه في حادثه سيارة وهو اول من قضي ببطلان هذا العقد.
ونرصد الركائز التي يعتمد عليها التحالف الحاكم، فرمانة الميزان خارج معادلة قوته، والعمال والفلاحين والمهنيين والحرفيين والطلاب هي القوي صاحبة المصلحه في التغيير، ونجد التحالف الحاكم يستمد قواه من:
· الحزب الحاكم الذي تحول عن طبيعته الحزبيه ليصبح إدارة من إدارات الدوله تفرض سيطرتها علي أجهزة الدوله، وصارت أجهزة الدوله أجهزة تابعة للحزب دون مبرر دستوري أو قانوني وزاد من مبررات السيطره رئاسة رئيس الجمهوريه للحزب.
· شرائح من القوي الاجتماعية تحققت لها مصالح من خلال حالة الفساد السائده.
· ما يمكن أن نطلق عليه الاحزاب والقوي السياسيه (التيارات السياسيه) لم تعد تعبيرا ناضجا عن القوي الاجتماعيه ومصالحها، ولكنها صارت كيانات تسعي للوجود في هرم السلطه ،تشاركه الحكم دون أي مسئولية تجاه إحتياجات المواطنين، وتحاول أن تبرر وجودها بإدعاء الاختلاف عن الحزب الحاكم وتوجيه النقد لسياساته وتوجهاته وعجزه عن معالجة مشاكل الوطن، وتحولوا مع الوقت الي شركاء في الحكم وليسوا تعبيرا عن القوي الاجتماعيه وإحتياجاتها.
· أجهزة أمنيه قائمة، وتحت دعاوي مواجهة الارهاب، تقوض الحياه في المجتمع بقيادة عناصر الحكومه، ويضاف اليها ما لم يرصد بعد، والحرس الحديدي السابق مثالا قابلا للتكرار، ولكنه لن يكون عامل حسم في مواجهة القوي الاجتماعيه الساعيه من أجل التغيير.
· ترسانة قوانين وتعديلات دستوريه أطلقت يد الحاكم والحزب في السيطره المطلقه علي أمر الوطن والمواطن.
وتتكشف الصوره عن مشهد مؤلم في حديث للأنبا بيشوى سكرتير المجمع المقدس نشرته صحيفة قاهريه، حديث يخرج عن المألوف ويتجاوز الحكمه، ويثير بلبلة ولغطا ويفتح أبوابا للفتنه الطائفيه تبدوا كما لو كانت متعمده.
يتفق المتابعون للمسألة المصريه، أن النيل ومياه الري والوحده الوطنيه قضايا للسلطه الاعلي في مصر، وتبدوا أن الايدي لا تقبض علي القضايا بالقدر الواجب، حتي أننا نقترب من صراع حول مياه النيل، وصدام طائفي مقدمة لخطط تقسيم مصر.
سباق مع الزمن، وخطط للتقسيم والتفتيت معلنة منذ عشرات السنين تجد طريقها للتحقق، ننكرها ونرفض تصديقها، ولكنها تملك آليات التحقق حتي وإن كانت ضد التاريخ وأنقلابا عليه، ويبقي أن ننظر ماذا تملك باقي القوي الاجتماعيه من مقومات؟.
مصطفي الغزاوي
نشرت بالشرق القطريه 21 سبتمبر 2010
0 comments:
إرسال تعليق