١٥‏/١٢‏/٢٠١٠

مصر ... التنظيم والتغيير

مصر ... التنظيم والتغيير

أستقر الوعي الوطني بأن هناك تناقضا في المصالح بين التحالف الحاكم بإمتداداته الخارجيه، وبين الشعب، وأن الفساد طال صلاحية الدوله، ومؤسساتها وصارت هناك ضرورة لاعادة البناء وفق أسس موضوعيه تضع حاجة الشعب مقدمة علي ضرورات الاستمرار في الحكم، وزادت القناعه بضرورة إحداث تغيير في منهج الحركه الوطنيه وأساليبها.

ليس هناك أنبل وأشرف من حركة تستهدف تحرير الوطن والمواطن وإمتلاك إرادة الفعل وتوجيهه لصالح الاهداف العليا للشعب.

هذا يضع تحت تصرف هذه الحركه كافة الوسائل وبلا استثناء، ويفرض ضرورة حرمان الطرف الآخر من كل أسباب القوه وأيضا بلا استثناء.

منذ الاستقلال وغياب الكفاح المسلح ضد المحتل الاجنبي، أصبحت سمة الحركه الوطنيه "كلام ..كلام " وغابت مكونات الفعل، وسلّّمت مقاليد القرار لسلطة أمنتها علي إرادتها، وكان هنا الخطأ، فالشعوب عندما تستخلص إرادتها من براثن الاجنبي والسلطه العميله له، يجب أن تعض عليها بالنواجز، وتطلق إرادة الفعل والتغيير لتعيد بناء الوطن، ولتظل محافظه علي شعلة اليقظه حامية لمكتسبات الشعب، ولتدرك أن عملية البناء والتقدم رحلة عمل مستمره وليست محطة وصول.

المحلل الإستراتيجى أمين هويدى، فى تعريفه للصراع يصفه بأنه "كلام كلام ... قتال قتال" أى إستخدام للديبلوماسية والحرب معا، وفى حالتنا الراهنة للسعى للتغيير فالمقولة تعنى "كلام لتوعية الناس بأبعاد هذا التغيير المطلوب، وفعل لدفع عجلة التغيير للأمام مرحلة بعد أخرى."

الآن أصبح الفعل بالنسبه للحركة الوطنيه هو "الفريضه الغائبه" الواجبة الأداء.

أعتمدت الحركه الوطنيه علي أرصدة سابقة في زمن النضالات "التحتيه ــ السريه"، ووقعت حبيسة اشتراطات العمل السري، وكان استمرار ذات منهج التنظيمات السريه والقيادة الحديديه نزيفا حقيقيا لقدرة الحركه الوطنيه، بل إجهاض لامكانيات تطورها ونموها في مواجهة تنوع المهام التي تواجهها، ورغم الاتجاه الي العمل العلني، الا أن كل تجمع صنع لنفسه مرجعية أخري في الظلام، ففي الظلام تجد الذوات نفسها، حتي وإن أدي ذلك لتغييب الحركة عن واجبها الوطني، والوقوع فريسة الخندقه التنظيميه.

إنعزلت القوي السياسيه وتكلست الاحزاب التي تحمل رخص الوجود وليس المبرر الشعبي بالوجود.

وعادت جماعة الاخوان المسلمين الي العلن تحمل وزر أن السادات فتح لها الباب لمواجهة اليسار والناصريين، ولتكون له سندا، لكنها جاءت تحمل هدفا ذاتيا هذه المرة وهو "إعلان الوجود وتأكيده" أياً ما كان الثمن، وأصبحت الجماعه الهدف لذاتها وبديلا للوطن، رغم ما يدفعه خيرة شباب مصر ثمنا لذلك، وصار أداؤها خارج سياق تحرير الاراده، بل أدي اشتباكها في الفترة الاخيره ضمن الحركة الوطنيه الي تصدعات يراها البعض ويصل فيما يري الي اتهامهم بالتنسيق مع النظام الحاكم، بينما رأى البعض الآخر أنها صراعات بين وجهات نظر غالبا ما تنتهي الي وجهة نظر تحول دون الانخراط الفاعل في الحركه الوطنيه، ووصل بعض ثالث الى أن الجماعه شأن باقي الكيانات أصيبت بمرض الشخصنه.

بين تضخم الذوات، وإختزال الوطن في أشخاص.

وأنتقال أمراض الحركات السريه الي الحركه العلنيه.

واستبدال الوطن بحزب او جماعه.

وسط ذلك كله فقدت الحركه الوطنيه زخمها.

فى نهاية عام 2003 ظهرت حركة تحت إسم "مهندسون ضد الحراسه" لاول مره كحركة لمهنيين، تجمع فصائل الناصريين واليسار والعمل والاخوان داخل عمل جماعي واحد، مثالا يؤكد أن المرحله، تستلزم اتساع الافق وتكاتف الكل، وفى عام 2004 خرجت حركة كفايه تعبيرا سياسيا رافضا للتمديد والتوريث، وصارت ومضة الضوء في الشارع المصري، ولكنها أصيبت بعد وقت قليل بمرض "الاستحواذ" بعد أن انتهي جدول الاعمال بكل ابداعاته عند أطراف الاصابع دون أن يغير في طبيعة العلاقه بين النخبة في الحركه والجماهير في الشارع. وفي تلك الآونه كان قولنا لهم: لكم فضل السبق وليس لكم حق الولايه.

وفى عام 2005 كانت حركة تيار الاستقلال في نادي القضاه إضافة هي الاولي من نوعها للحركه السياسيه، خاصة وأنها أتخذت من الاحتجاج بالمسيره والحركه في الشارع أسلوبا لها. وذاب الثلج بين السياسيين والمهنيين وبين القضاه، وكانت لحظة تنم عن أن الادراك و الوعي لدي الجميع بلغ مدي استدعي الكل الي الشارع.

ولكن كانت تلك الحركات وغيرها تبدوا كجزر معزوله عن بعضها البعض، قادره علي التعبير؟ نعم، أضافت تراكما في المطالبات، نعم، ولكنها لم تتجاوز ذلك، مما أتاح للنظام أن ينال منها واحدة بعد الاخري، لغياب قوي المجتمع الاساسيه من حولها.

وصف المستشار طارق البشري إحتياج الحركه الوطنيه المصرية ببلاغه لا تحتاج أي تزيد معها، وقال فى كتابه "مصر... العصيان أو التفكك":

"الحال ان القوه الاجتماعيه والسياسيه ترد من العمل الجماعي لا من الجهود الفرديه، وهي تأتي من العمل الجمعي المشمول بشكل تنظيمى، ولا فعل الا بقوه ولا رد فعل الا بقوه، ولا تأثير الا بقوه ولا ممانعه الا بقوه، والحال ايضا أن الحركه الاجتماعيه والسياسيه لا تنفذ بآثارها الا بهذه القوه الجماعيه المنظمه، وأن أي حراك شعبي أو جمعي من أي نوع وفي أي مجال يرد بغير قوة منظمة وإنما يكون حراكا عشوائيا ما يلبث أن يتفرق شعاعًا وأن يتشتت بددًا لا يبقي منه أثر يذكر، لذلك فإن التنظيم هو ما يكون عليه المعول في حساب القوي وإدراك الآثار المتفاعله في المجتمع للجماعات والفرق المختلف".

اذا معادلة الفعل هي "عمل جماعي منظم"، تولية محمد علي كانت حركة جماعية يتمثل تنظيمها الجامع في تنظيمات أصحاب الحرف والتجار، والقياده الواحدة لشيخ من الازهر وهو عمر مكرم. وحركة احمد عرابي في مواجهة الخديوي كان وراءها تنظيم الجمعيه السريه لضباط الجيش المصري الوطنيين والتي أسسها اللواء علي الروبي عام 1879.

وعام 1893 تأسست تأسست جمعية الحزب الوطني السريه بقيادة لطيف باشا وضمت مصطفي كامل ومحمد فريد وكانت تهدف الي تنظيم صفوف المصريين للعمل من أجل الاستقلال.

وثورة 1919، كان هناك ما تجاوز العشر تنظيمات، وتنوعت المهام حسب تنوع القدره، وأدار عبد الرحمن فهمي ذلك بإقتدار، وربما لطبيعته العسكريه اصبح أركان حرب ثورة 1919.

وثورة 1952 كان وراءها تنظيم الضباط الاحرار، ويروي السيد شعراوي جمعه أنعبد الناصر كان يطالب أعضاء التنظيم باستكمال دراسات أركان الحرب، ويتولي شرح المقررات لهم.

ورغم اتساع مدي مظاهرات فبراير 1968 إلا أن القوة الرئيسيه فيها كانت لمنظمة الشباب سواء في الجامعات او المصانع، واتخذت منظمة الشباب موقفا مع العمال غير موقف اتحادات الطلبه، ولم تكن مظاهرات 1977 حركة عفويه، بل كانت نقطة أقصي تطور في المواجهة بين نظام السادات وكافة التنظيمات التي كانت قائمه طلابيه ونقابيه وسياسيه بل ومنظمة الشباب أيضا.

هنا يجب التدقيق في الحاجه الطبيعيه لتنظيم الجهد، وفي الاداره نضع معادلة: من؟ يفعل ماذا؟ أين؟ متي؟ ولماذا؟ وكيف؟ أو (5W+1H).

هذه الاسئله يمكن أن تضعها القياده أمام عينيها لتعيد تسكين الجهد البشري وفق جدول زمني متصاعد لتحقيق المهام اليومية ، تصل عبر التراكم الي تحقيق الهدف النهائى لحركة التغيير.

وإذا كان الهدف النهائى هو إعادة السلطه للشعب من أجل إعادة بناء الدوله ووضع عقد اجتماعي جديد، فإن الهدف المباشر هو تحرك شعبي يشمل كافة قوي المجتمع صاحبة المصلحه في التغيير، بما يؤدي الي نزع عناصر القوه من تحالف الحكم القائم، وتمكين الشعب منها.

ويجب الانتباه الي أن التحالف الحاكم لن يستسلم بسهولة، ولن يكون لديه رادع عن التصعيد في المواجهة الي الذروه، فهو في حالة دفاع عن النفس وعن المكاسب التى إستحوذ عليها فى العقود الاربعة الماضيه، والوطن بالنسبة له ليس سوي ساحة تجارة، والشركاء فيها ليسوا بشركاء "مواطنون" ولكنهم "سكان" غير مرغوب فيهم، وينظر اليهم التحالف الحاكم أنهم دون القدره علي المواجهة والاستمرار فيها وأمتلاك قدرة إدارتها، خاصة بعد كل الجهد الذي تم خلال الاربعين عاما الماضيه لافقادهم إي أوعية تنظيميه تضمهم، أو في الحد الادني إفقاد ما تبقي من هذه التنظيمات فعالياتها.

ما نحن بصدده في أمر الحركه الوطنيه من أجل تحرير الاراده الوطنيه ، هو علميا صراع بين قوتين ، وتنطبق عليه قوانين الصراع وشروطه.

وفي كتاب "أستراتيجية المستقبل" يقول الجنرال أندريه بوفر وهو يعرض لتأثير السلاح النووي في الصراعات: (من المبتذل القول بأن "الحرب قد تبدلت")، ويمضي شارحاً أن ما نعاصره هو تحول وليس مجرد تطور ويفهمه البعض علي "أنه لن يكون هناك حروب أبدا"، وهو أمل غالبا ما خاب. ويمضي محذراً "من أن يصاب التنظيم "التكتيكي"، والاستراتيجيه "العملياتيه" بالتجمد في صيغ بالية عتيقه، وهو أمر بالغ الخطوره."

وقياسا مع الفارق، من الخطأ القول بأن زمن الثورات قد إنتهي وأن الثوره لن تحدث أبدا، وإذا سلمنا بهذا، تكون الحركه الوطنيه قد أصيبت بالجمود، وفصلت بين الكلام والفعل وأكتفت بالكلام، وحكمت علي نفسها بالذبول والموت.

الخطر والمحظور الذي يحدده الجنرال بوفر للعسكريين، هو ذاته بالنسبة للسلطه، وهو كذلك لحركات التحرر الوطني. الأمر الذي يفرض علي قياده الحركه الوطنيه الوعي بالتحولات التي طرأت علي الصراع الاجتماعي وأهمية تطوير التنظيم ، واستنباط المهام "العمليات" المؤديه لتحقيق الهدف ، وامتلاك بدائل للحركة تمكن القياده من مواجهة المتغيرات.

ويبقي أمامنا السؤال الكبير، هل ما زال العمال والفلاحين والمهنيين والحرفيين والطلاب والجنود هم قوي التغيير؟ أم أن التحولات المعاصره قد طالت القدرات والانتماءات؟ وهذا سؤال آخر.

مصطفى الغزاوي

elghazawy@gmail.com

نشرت بالشرق القطريه في 14 سبتمبر 2010

0 comments: