١٥‏/١٢‏/٢٠١٠

مصر ... السؤال الكبير "3"

مصر ... السؤال الكبير "3"

بدا مما عرضناه أن القوي الاجتماعيه تدرك بالمصلحة المباشره ومما أصابها من الوان الغلاء وإستلاب المكاسب الذى منيت به، وتفريغ المؤسسات الجماهيريه المعبره عن مصالحها، من المضمون والاستيلاء عليها، وتوفير الغطاء التشريعي لكل هذا، باتت تدرك وجوب التغيير، وأن الأمر ليس إصلاحا سياسيا بمعني التعديلات هنا وهناك، ولكنه إعادة ترتيب الدوله، ومن ثم التعبير عن الترتيبات الجديده بعقد إجتماعي جديد.

هذا ما نتصور أنه وصل يقين هذه القوي، او في الحد الادني أدركه وعيها. وإن كان التعبير عن هذا الادراك ما زال دون القدره علي تحقيق إنجاز في الواقع يتناسب وحجم المهام المفروض عليها أداؤها.

وقد إتضح مما عرضناه، أن القوه والقدره لا تأتيان لمجرد الرغبه، ولكن لهما شرطان واجبا التحقق، أن العمل جماعي وليس فردي، أي الجميع خلف الهدف، وأن يكون مشمولا بالتنظيم.

والتنظيم هنا لا نعني به أن تكون الكتل الجماهيريه منتظمه في هياكل تنظيميه ولكن ما نعنيه بالتنظيم التكتيكي او العملياتي هو القدره علي حشد الكتل الشعبيه علي المستوي الجغرافي والنوعي وتوجيهها في إطار تنفيذ مهام التغيير، وذلك يتطلب توافر ما يلي:

1. وضوح الهدف لدي الكتل الجماهيريه، وقبولها به، وهذا ناتج من رد الفعل الشعبي علي حالة الغلاء وفضائح فساد السلطه والعجز عن تلبيه الاحتياجات الشعبيه.وهو أيضا يتأتي من الدعوه والتوعيه والتحريض.

2. الإستعداد للعمل من أجل تحقيق أهداف التغيير، وهو إدراك يتجاوز مجرد الوعي، إلي ضرورة ترجمة الوعي إلي فعل، لان الفعل هو السبيل الوحيد لتحقيق الهدف، وأنه مسئولية مباشره.

3. الاستعداد لتحمل تبعات العمل من أجل اهداف التغيير، والقبول بالتضحيات إن لزم الامر.

4. وضوح المهام الواجب تنفيذها.

5. وضوح البدائل لمراحل الحركه.

6. القدره علي الاتصال والتواصل بين القطاعات المختلفه.

7. الاعلام بما تحقق من إنجاز، وعلاقة ذلك بالهدف النهائي.

8. القدره علي توفير التمويل اللازم للحركه ذاتيا أو ببدائل تؤدي للاستغناء عنه.

9. القبول بقيادة العمل، وقراراتها.

والعناصر السابقه جميعها ترتبط ومدي قدرة المجتمع علي انتاج قيادة للتغيير، تتولي تحقيق عناصر التنظيم هذه.

ويجب الاعتراف أن ممارسة القوي الاجتماعيه والنخبه من العناصر السياسيه لهذا الأمر حتي الآن هى ممارسة الهواه غير الإحترافيه، فهى لم تطرح أمامنا مخطط أداء وبرنامج زمني، ولا هي تمارس بأسلوب التجربه والخطأ، الذي يتيح التراكم الناشئ عنه أن يعطي محددات طريق تستكمل القوي السير فيه.

قال لي صديق بعد أن حضر مظاهرة في ميدان عابدين بالقاهره يوم 21 سبتمبر 2010 "أنت تعلم أن (...) صديقي، ولكن مظاهرة بها إثنان من الذين أعلنوا أنهم سيترشحون لمنصب رئيس الجمهوريه، ولم يتمكنا معا من حشد عشرة آلاف متظاهر علي الأقل، وتخرج المظاهرة بهذا العدد المحدود!"، قال ملاحظته وصمت، ولم أجد تعليقاً لدي.

نحن أمام شيزوفرانيا النخبه السياسيه ومتباينات في الاختيار، يتحدثون عن رفض حكم العسكر، دون أن يعرضه أحد عليهم، ولكنها نغمة ليبرالية المقاهي، ويقبلون بلصوص الانفتاح والخصخصه شركاء في الديمقراطيه. وكأن الديمقراطيه هي علاج انهيار الدوله والفشل علي كافة الأصعده، ويتغافلون عن أن الديمقراطيه نتيجة، وأنها تتحقق عبر تراكمات اجتماعيه واقتصاديه وسياسيه عبر تاريخ المجتمع.

ويتجاهلون مسلسل القتل الامريكي الصهيوني، ويركنون الي امريكا لتنصرهم في الإصلاح السياسي، ويعتبون علي الرئيس الامريكي إن لم يتعرض لأمر مصر والديمقراطيه والانتخابات، يريدون أن تحملهم أمريكا علي أكتافها بدلا من الدبابات، ولا يوضح أي منهم الفرق بين كتف أمريكا ودبابات أمريكا؟ وبأي ثمن ستساعدهم أمريكا؟.

وتنهال عليهم عصي الامن المركزي ويلقي بهم في الزنازين، ويسألون السلطه ألا تزور الانتخابات وأن تمنحهم ضمانات لنزاهة الانتخابات، وفي كل هذا لا ينتبهون الي القوي الاجتماعيه إلا بالنقد والتساؤل: متي سيخرجون عن صمتهم ويتحركوا؟؟

هنا تتبدي أهمية دخول الاستاذ هيكل باقتراحه بمجلس أمناء الدوله والدستور، أضاف ثقله وراء فكرة المطالبه بالتغيير وفق إقتراح متكامل، ولكن لم تنجح النخبه الوطنيه في تبني الفكره ولاذت الي القبول بمجرد ترشيح للرئاسه والمطالبه بتعديلات وضمانات، ولم تدرك الفارق بين مطالب التغيير وجذريتها وبين المطالبه بتعديلات وضمانات، كما أنها لم تنجح في إقرار قيادة لحركة التغيير، وقيادة الحركة غير تلك المناوبات حول من يقود جمعية التغيير مع الاحترام للاشخاص، فالفارق جوهري بين تصرفات الهواه والعمل العلمي الاحترافي.

ويبدوا شبح توفيق الحكيم في الافق يحادثنا عن دور تائه، ينشد عودة الروح، ويبحث عمن يقوم به.

كان الحديث في الماضي غير البعيد أن من يستولي علي القاهره الكبري الجغرافيه، يستولي علي نظام الحكم، فأحاطوا القاهره بكتل عماليه في حلوان وألماظه وشبرا الخيمه والجيزه، وكانوا يومها علي قناعة بأن العمال سيحمون النظام، ومن هؤلاء العمال خرجت المظاهرات في 1968 و1977، ثم تراكم من حول القاهره حزام العشوائيات الذي يقدرون عدد القاطنين فيه بستة ملايين مواطن، ولكن السلطه لم تترك للعشوائيات أن تحكمها، فأحاطتها بحزام من الأمن المركزي يفصل بين القاهره وعشوائياتها وبين المجتمعات الجديده التي يطلقون عليها "مدن الجولف".

وفي عام 1986 خرجت المظاهرات من الامن المركزي ذاته، ويومها إضطر الجيش للتدخل حتي لا تمتد الحرائق الي قلب القاهره، كان حريقا آخر للقاهره يعيد للأذهان وقائع يناير 1952، ولكنه انتهي دون أن تصل نيرانه لقلب العاصمه. فهل سكان النطاقات المتواليه من عمال وعشوائيات وأمن مركزي وسكان "مدن الجولف"، قادرون علي العيش معا دون إستفزاز؟، وهل سيظل الأمن المركزي يري ما يحدث في قلب العاصمه دون أن تصل حقائق ما يحدث خلف ظهره إلي إدراكه؟ ودون أن تستفز جموعه القادمه من قاع القرية والنجع والمدينه، مظاهر الهوة الشاسعه بين الأغنياء الذين يحمونهم، ويدفعون عنهم ضريبة الفارق الطبقي، في مواجهة من هم في الاساس أهلهم.

يبدوا من مشهد الحلقات المحيطه بالقاهره أن الأمن المركزي مرشحا ليكون الوقود الأساسي لثورة الجياع.

وقبل الوصول الي الحساب الختامي حول مستقبل التغيير في مصر نجد أن هناك ثلاث سيناريوهات ومشترك أعظم واحد.

السيناريو الاول، وهو القائم بالفعل، سواء استمر الرئيس في الحكم، أو تم التوريث، أو جري أمر ثالث تعبيرا عن توازن للقوي داخل الدوله وبعيدا عن الرأسماليين الجدد، وهذا السيناريو، يحظي بالنصيب الاوفر من التحقق، وهو ليس انتصارا سياسيا للتحالف القائم، ولكنه تعبير عن عملية متوالية لدعم خيارات التحالف، بكل الوسائل، وهو ما عددناه في المقالات السابقه، وآخرها نجاح التحالف الحاكم في إجهاض محاولة مقاطعة الانتخابات، والتي أفشلها بالاساس أحزاب الوفد والتجمع والناصري وأنضمت إليهم جماعة الاخوان المسلمين، ولتتسع رقعة التحالف الحاكم لتضم الاحزاب وجماعة الاخوان المسلمين في مواجهة عملية التغيير.

ويقارب هذا السيناريو سيناريو ثان ينتج منه او ينتج في مواجهته، والخشية فيه أن يكون قريبا من سيناريوهات أمريكا اللاتينيه،أو لنسميه سيناريو "لورنس العرب".

وهو سيناريو يعتمد علي المجهول بالنسبة للمعلومات المتوافره، ولكن المنطق قد يعوض نقص المعلومات، فمن غير المتصور أن مصر ليست علي جدول اعمال مباشر بشأنها في الغرب، وأجهزة مخابراته، وأنهم بالقطع لن يدعوا ما يحدث في مصر للظروف والصدف تصل به الي غير ما يريدون، والمتصور أنهم يملكون مخططا، وقد نفاجئ بالمحظور اليوم وهو في سدة الحكم غدا، ووراءه تحالف مخابراتي غربي أمريكي إسرائيلي، ويفعل "لورانس العرب" الجديد فعله في مصر. وهو احتمال تعاظم مع حالة تجاوز في تصريحات مفاجأه صدرت عن الرجل الثاني في الكنيسه، أقرب ما تكون الي دعوة للحرب الاهليه.

محوران متناقضان يلعب عليهما الغرب وأجهزته، حكم ديني اسلامي ورفض ديني مسيحي وتصل مصر الي بدايات طريق التقسيم.

والسيناريو الثالث سيناريو توافر قدرة لقوي التغيير، رغم غياب القياده والتنظيم والحشد، وذلك إذا ما توفر ما اسميناه "مجهول توفيق الحكيم"، ظهور درامي لمن يملك القدره علي تولي الدور التائه والوصول بقوي التغيير الي اول الطريق، وهو سيناريو يقوم علي المجهول، وليس هناك من منطق يعوض نقص المعلومات عنه، وضعنا هذا الاحتمال رغم أن مصائر الامم لا تتحدد بالمجهول وجودا وقدرة ورؤية.

والمشترك الاعظم الذي يزاحم هذه السيناريوهات هو"ثورة الجياع"، لا يلغيه أي من هذه السيناريوهات، لان السيناريوهات السابقه هي صراع المماليك، أو المحاولات النخبويه في مواجهة التحالف الحاكم، وإصرار التحالف الحاكم علي تحقيق سيطرته علي السلطه بقواعد وقوانين أنتجها الفساد، غير عابئ بالمردود الشعبي في مواجهة التدهور الاجتماعي والاقتصادي.

التحالف الحاكم بمن انضم اليه، يمثل قصة "صورة دوريان جراي" لأوسكار وايلد، ووقائع الايام القليله الماضيه كشفت عن الوجه الشيطاني للتحالف الحاكم، في مواجهة لعب فيها القضاء الاداري والجنائي ، والحكومة ولجانها، وترزية القوانين، الدور الرئيسي. ولم تعد الأمور أستثمارا ولا سياسة اقتصاديه وليست متطلبات عصريه، بل ما انكشف هو فعل شيطاني، ولم تعد التشوهات تحت أستار سميكه تخفيها، بل صارت ملك لكل الناس، فقد أعترف الشيطان أن قدرتهم فاقت تصوره، وكشف عن صورتهم المشوهة.

إجهاض مقاطعة الانتخابات كخطوة أولي للعصيان المدني، فتح الباب لتنضم كتلة الجماهير تحت خط الفقر مع كتلة الفقراء تحت السلاح داخل الامن المركزي، وهو ما يمثل اللغم القابل للانفجار دون سيطرة تحت مسمي "ثورة الجوع".

هكذا محاولات الاجابة تثير من الاسئله أكثر مما تضع من إجابات، فكيف يمكن رؤية مستقبل الحركه من أجل التغيير في مصر؟ وهذا حديث آخر.

مصطفي الغزاوى

elghazawy@gmail.com

نشرت بالشرق القطريه في 5 اكتوبر 2010

http://www.al-sharq.com/articles/more.php?id=211129

0 comments: