مصر ... مستقبل التغيير "2"
يمكن إختصار الحاله في مصر في مشهد يندي له جبين الانسان، تمثل في ضابط بحرس جامعة الزقازيق يركل بحذاءه طالبة جامعية في مؤخرتها أمام بوابة الحرم الجامعي، مطلقا من السباب ما لا يمكن نشره في الصحف. ركلة كما يرفس الحمار محيطه غير واع بأن هذه الفتاه إبنة الشعب الذي تصدي للهكسوس والتتار والمغول والصليبيين وحمل عليهم وأخرجهم من الارض العربيه.
هي إبنة الشعب الذي قاوم الاحتلال البريطاني في مصر والفرنسي في الجزائر ودعم ثورة اليمن وحركة التحرر في الخليج العربي وتصدي للعدوان الثلاثي عام 1956 ولهزيمة يونيو 1967 وأنتصر علي الصهاينه عام 1973 ... إبنة هذا الشعب تركلها قدم ضابط شرطه يحصل علي راتبه من عرق الشعب المصري العامل.
هذا الضابط الذي تجاوز كل الاعراف والقيم الانسانيه والأخلاقيه والقانونيه والدينيه والمهنيه، لم يكن يركل فتاه جامعيه فحسب، بل كان يركل كل أجدادها الذين مروا فوق هذه الارض الطيبه وصنعوا الحضاره وأسهموا في الحضارة الانسانيه، كان يركل أحمس ورمسيس ومحمد كريم ورفاعه الطهطاوي وأحمد عرابي ومصطفي كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وعبد الرحمن فهمي ومحمود شلتوت وأحمد لطفي السيد وأحمد شوقي وطه حسين والعقاد ونجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل وأحمد زويل ومحمد البرادعي وابراهيم الرفاعي وعبد المنعم رياض وسعد الشاذلي وجمال عبد الناصر ... يركل تاريخ مصر كله ورجاله ولا يتصور أن هناك من يمكن أن يراجعه أو يحاسبه.
مشهد يجسد العلاقه بين سلطه تجهل تاريخ الوطن وتتنكر له، وبين الشعب الذي يدفع ثمن بقاؤه علي قيد الحياه خصما من كرامته. لم ينجح العدو الأجنبي في النيل من كرامة المصريين ، وكانت المذابح البريطانيه في دنشواي وكفر عبده والاسماعيليه، دلالة رفض الشعب للوجود الأجنبي وفي النهايه حمل المحتل الاجنبي عصاه علي كتفه ورحل.
ويصور الفنان عمرو سليم المرحله في كاريكاتير نشر في 13 اكتوبر 2010 حيث ترتدي عينات لها دلالتها من الشعب المصري زي رجال الشرطه ومنهم "مذيع، مرشحه بالكوته، صحفي، رئيس حزب، أستاذ جامعي، مالك صحيفه، وزير" !!، بينما "عسكري بحق وحقيقي" كما أطلق عليه عمرو سليم، قد ألقي القبض علي مواطن بملابس باليه ويدفعه أمامه الي الضابط قائلا: "تمام يا أفندم ... ضبطته ماشي في الشارع من غير يونيفورم المرحله !".
يونيفورم المرحله .. ليس أمامك خيار، إما أن تسلم إرادتك للشرطه وتعمل لحسابها، أو أن تتهم بالخروج عن مقتضيات المواطنه ويتوجب إعتقالك.
مشهد وكاريكاتير يعرضان للمأساة الملهاة التي تفرض خيار التغيير فوق أرض مصر، وتنفي إمكانية الاصلاح بين التحالف الحاكم وبين الشعب.
وبهذا أصبح الشعب بين خيارين، التسليم لإرادة ورغبات الأجهزه الأمنيه الحاكمه عن غير وعي بتاريخ الوطن وثوابته ودستوره والقوانين الناشئه عنه، ولا تدرك لنفسها دورا غير أنها عصا غليظه في يد التحالف الحاكم ولصالح استمراره في الحكم، أو علي أفراد الشعب ألا يتوقعوا غير الركل بأحذيه الشرطه. هذا ما لدي التحالف الحاكم من بدائل للشعب وأصبح خيار كسر هذه المعادله السوداء هو المدخل الي الحركه من أجل التغيير في مصر.
الحديث عن التغيير في مصر ليس حديث التمني ولكنه حديث المسئوليه الواجب إدراك أبعادها، وتحقيق أهدافها. لم يعد صالحا أن تستمر الأمور علي ما هي عليه، وعرضنا في المقالات السابقه لقضية التغيير من جوانبها المختلفه، ولعلنا نقترب في هذه المقاله من الإجابه علي السؤال التاريخي : ما العمل؟.
لقد أدركنا أن النقابات العماليه والمهنيه والجمعيات الأهليه قد سيطر عليها التحالف الحاكم بواسطة أجهزة الأمن، وأستسلم أعضاؤها لهذه السيطره وخصموا أنفسهم من قوة المواجهة، كما أن الأتحادات الطلابيه صارت شكلا بلا مضمون سواء بسيطرة الأمن عليها أو بالمنهج السائد بين الطلاب والذي أدي الي حشد الطلاب وتخزينهم داخل مبردات للإرادة إلي أن يحين وقت الاحتياج حسب رؤية المسيطرين علي حركة النشطاء من الطلاب، وضاع الطلاب بين مطرقة الأمن والإداره وسندان منهج تجميد الحركه.
كما اتضح أن الأحزاب السياسيه مشاركه للحزب الحاكم في تحالف الحكم، وأنضمت اليهم جماعة الاخوان التي لم تعرض تصورا سياسيا لكيف يتم التغيير، ولكنها تسعي لاثبات الوجود وتحقيقه بمشاركة في الانتخابات النيابيه، بينما يدفع شباب هذه الجماعه الثمن في موجات من الاعتقال، والمصادرات الاقتصاديه، ويعانون من تشتت بين حاجة الوطن ورسالة الدعوة ، حتي صارت الجماعة عبئا علي الحاله الوطنيه وعلي الحركة من أجل التغيير شأنها في ذلك شأن الاحزاب السياسيه. وتكاد تخسر جماعة الاخوان قبولا لدور لها ضمن الجهد الوطني، تغاضي عن كون عودتها بالأساس الي الساحة السياسيه كان الهدف منه دعم خيارات نظام السادات في مواجهة الحركة الوطنيه، وبالتالي فعلاقتها مع نظام مبارك هي امتداد لذات قناعات الجماعه والدور الذي قبلت به، ولكن التحرشات المتبادله لا تخرج عن أزمة داخل التحالف الحاكم وتنافس داخلي مهما كان الإدعاء برفض الفساد أو عذابات الزنازين، فمن يدخلون السجن مهما كان مستواهم التنظيمي ليسوا هم الذين يتخذون قرار الانتماء.
إندرجت الغالبيه تحت سطوة الأجهزه الأمنيه وفقدت الدعوه الي تشكيل "حركة التغيير" وفق مفهوم "حركة التحرر الوطني" جدواها، وتحولت القوي والأحزاب والجماعات الي مطالب آنيه وذاتيه، وأنخرطوا في منظومة التحالف الانقلابي الحاكم، ووجدوا من يبرر حقهم في ذلك وأن أي حديث عن حق الوطن عليهم وواجبهم مجتمعين تجاه عملية التغيير هو إتجاه شمولي لا وجود له في عالم الليبراليه الأعرج، الذى لم يقل أحد لنا لماذا أصبحت معايير الليبراليه هي الصواب وأن غيرها لعنة غير مقبوله، ولم يوضحوا لعنة علي من خاصة أن كل كل الانهيار والفشل في الدوله تم تحت شعارات الليبراليه وفق منهج حزب العمال البريطاني في التعامل مع مصر!! وتحت إشراف توني بلير!!.
لذلك صار الواجب إعادة ترتيب الاوراق وتحديد اتجاهات المجهود الرئيسية من أجل التغيير مع الأخذ في الاعتبار المحددات والمهام التاليه:
1) أن الزمن ليس معاملا مفتوحا بلا حدود، فالوقت الذي لا "تستخدمه ــ تستثمره" حركة التغيير، يستخدمه التحالف الحاكم في إجهاض الحركه، فضلا عن السيطرة علي مقدرات الوطن وإهدارها. لذلك الزمن معامل يجب إدراك قيمته وإدخاله في حساب النجاح والفشل.
2) أن التسليم بأن الكوادر داخل الأحزاب والجماعات السياسيه، والتي يتلاقي وعيها علي ضرورة الحركه من أجل التغيير، هم هدف رئيسي لحركة التغيير وأستقطابهم للحركه مهمة أساسيه.
3) البحث والتدقيق في مبررات التلاقي بين الاحزاب السياسيه وجماعة الاخوان وتحالف السلطه والثروه الحاكم، ودراسة أمكانية التأثير علي هذا التلاقي والسعي الي تفكيكه.
4) وضع خطه لأستعادة النقابات من الاستغراق في الدعوات الفئويه، والأستسلام لأدارة الأمن للنقابات العماليه والمهنيه والسعي الي ربط النقابات بالدور الوطني، وقد يواجه هذا الهدف صعوبات شديده ولكنه ليس بمستحيل، فضلا عن أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، يؤدى دور التحريض والحشد خلف مهام التغيير، حتي وإن لم يتولي أحد الدعوه الي هذا.
5) السعي الي استرداد نادي القضاه لصالح جبهة الاستقلال، وكذلك نقابة المحامين والصحفيين لصالح الحركة الوطنيه. والسعي الي استرداد حركة نقابة الاطباء ونقابة المهندسين الي التيار المقاوم لعملية السيطره الأمنيه، وهذه المهام العاجله في اتجاه النقابات المهنيه، سيكون لها أثرها ومردودها علي باقي التشكيلات النقابيه. كما يجب السعي إلي إعادة دور انديه أعضاء هيئة التدريس في الجامعات بما يمثله من عمق نوعي للحركه وما يمثله من قدرات بشريه.
6) مواجهة النزوع الي فردية الأداء أو محاولات شخصنة الآليات، وهو أمر يتطلب جهدا يجب أن يسهم فيه المثقفون الي جانب السياسيين، حتي نستطيع عبور عنق الزجاجه في الوضع القائم والمتمثل في تشاحنات علي غير القضيه، وتنافس علي غير التضحيه. ولعل أسماء بعينها لها في الأمر دور رئيسي منها الدكتور محمد غنيم والدكتور محمد البرادعي والدكنور كمال أبو المجد والمستشار طارق البشري والدكتور وسيم السيسي والمستشار زكريا عبد العزيز والدكتور حسام عيسي والدكتور يحي الجمل والاستاذ محمد حسنين هيكل، والأمر يتسع للعديد من الشخصيات التي يمكنها أن تسهم في هذه المهمه.
7) تعدد الآليات وتنوعها يصبح إضافة لو ان له هدف واحد، وتم تحديد المهام لكل منها علي أن يجري التنسيق الافقي فيما بينها، وأيضا تقييم النتائج التي تتحقق، والمكاشفة بين عناصر الأداء والتوجيه والتقييم ضرورة أستمرار وضرورة نجاح، لأن أي تجاوز يمكن أن يذهب بجهد الجميع.
8) التمييز بين الأداء الأفتراضي (الانترنت)، وبين الأداء في الواقع، فألأداء الافتراضي هو وسيلة للحشد والاعلام وتبادل الرؤي والحوار، أي أنها أداة اتصال وليست أداة فعل، مما يعني أن مقابل كل وجود إفتراضي يجب أن يكون هناك وجود في الواقع المجتمعي.
9) الأداء في الواقع يجب أن يتسم بالفاعليه، وهو ما يتطلب إضافة التدريب للكوادر التي تقوم بالمهام، ليشمل كيفية الأداء بين الجماهير وطرق تنميته، وأساليب تصاعد الدعوه الي الاهداف العليا للتغيير، وأساليب الارتباط بين الدعاه وعناصر الحركه والكتل الشعبيه في مواقعها. قد تبدوا العناوين ضخمه، ولكن المحتوي سلس وقريب من ذهن المتعاملين في العمل العام أو حتي داخل الوحدات الانتاجيه والشركات، فقط المطلوب إعادة التذكره، وهنا يؤدي التدريب دوره في إعداد كادر الحركه.
10) تحتاج الحركه الي إدارة حوارحول المضمون، لتحديد هوامش الاتفاق، وهذا حوار فكري وسياسي وعليه تجنب الانزلاق الي الاستطراد في توصيف الحاله. ويضاف الي ذلك شروحا لبعض مفاهيم الحركه.
وهكذا فإن مهام الحد الادني من إعداد البشر، والاجتهاد بشأن إعداد مسرح العمليات، وكلها مهام تحضيريه، هي مهام لا غني عنها وليس هناك من يقوم بها نيابة عن قيادة هذه الحركه.
ويبقي لسؤال ما العمل؟ تصور برنامج للحركه، قد يكون الاسهام فيه واجبا، ولكنه بالاساس مهمة رئيسيه للقياده الميدانيه لحركة التغيير.
مصطفي الغزاوي
نشرت بالشرق القطريه 19 اكتوبر 2010
0 comments:
إرسال تعليق