مصر بعد مائتي عام من مذبحة القلعه
تموج مصر في هذه المرحله بتحركات تستهدف ما أطلق عليه الاصلاح السياسي والتغيير ، وما يحدث في مصر ستنعكس نتائجه علي المنطقه ، إيجابا أو سلبا ، ولم يعد ما يحدث يخص المصريين وحدهم ، بل هو قضيه تمس كل العرب.
يربط البعض حاله القلق في المجتمع المصري الآن بحالته بداية القرن التاسع عشر بعد خروج الحمله الفرنسيه من مصر وتطاحن المماليك في صراع علي السلطه. وفي ذلك الحين قام تجمع من العلماء والمشايخ والتجار بإختيار محمد علي واليا علي مصر لمواجهة الفوضي التي نشأت نتيجة صراع المماليك. لم يستقر محمد علي إلا بعد أن قضي علي التجمع الوطني الذي أتي به ونفي زعيمه السيد عمر مكرم خارج القاهره. ودعا أمراء وبكوات المماليك الي القلعه في اول مارس 1811 للاحتفال بإلباس ابنه الاصغر طوسون باشا خلعة القياده لحملة الجيش الي الجزيره العربيه ، وقضي عليهم جميعا فيما عرف بمذبحة القلعه.
ويتردد تعبير "تداول السلطه" ، فيبدو هدفا خارجا عن سياق ما وصل اليه المجتمع ، فتداول السلطه يمكن السعي اليه عندما تتوازن علاقات القوي ، ويحدد المجتمع قواعد واضحه للعلاقات بين قواه علي الاصعدة الاجتماعيه والاقتصاديه ، وتتيح هذه العلاقات تعبيرا سياسيا لكل من قوي المجتمع ، تدرك مكونها البشري وأحتياجاته وتملك قدرة صياغة هذه الاحتياجات في صورة أهداف محدده ، وتحفر لنفسها مكانا عبر تراكم السعي الايجابي تجاه اهدافها ، وتسطر لنفسها أسس قياس النمو الذاتي والتأثير المجتمعي ، عندئذ يصبح ما بين قوي المجتمع هو تنافس علي السلطه ، ويصير تداول السلطه هدفا داخل السياق.
التغيرات التي جرت في المجتمع المصري لم تكن نتيجة حراك طبيعي داخل المجتمع أدي الي تدهور او نمو ، ولم تكن نتيجة انقلاب بالقوه جري فيه الاستيلاء علي السلطه وإعادة توجيه حركة المجتمع. ولكن ما جري من تغيير سار بهدوء وبلا صراع ، وكانت القرارات والسياسات تتناقض واحكام نصوص الدستور ، وإنقضت علي مكاسب شعبيه تحققت وتراكمت من يوليو 1952 ، وتضمنها دستور 1971. إن مصارحة العقل علي هذا النحو إحتياج وطني ، وهو تحديد موضوعي يمنع أوهام أحلام اليقظه ويفرض محددات التغيير ، ويحدد خطوط الاتصال والانفصال بين دعوات الاصلاح السياسي ودعوة التغيير.
وكان من نتلئج هذه التغيرات أن تحول الاستقلال الوطني والتحرر القومي والصراع العربي الاسرائيلي ، من مفهوم الامن القومي الشامل الي الامن الذاتي للنظام الحاكم. وصارت حرية الانسان وحقه في الحياه محل التقييم الامني ، وصار تعامل السلطه مع الشعب تعامل أمني مطلق وليس هناك إدراك بأن الشعب هو مصدر السلطات ، وليست السلطه هي التي تنتج الشعب المتوافق معها. وكان نظام السادات قد أنشأ جماعات أرتدت مسوح الدين بواسطة محمد عثمان اسماعيل محافظ اسيوط وعثمان احمد عثمان نسيب السادات والمقاول الشهير ، وهي الجماعات التي تولد منها تباعا ما أطلق عليه أمن النظام "الارهاب" ، ولكن المجتمع دفع ضريبة ما صنعه النظام بأدواته 30 عاما من قانون الطوارئ.
لم يقدم النظام رؤية للتنميه الاقتصاديه ، ولم يملك الا الاستجابه لما اطلقوا عليه الخصخصه ، التي أهدرت أغلب مصادر الانتاج ، وأنشأت علي التوازي معها فئة جديده ترث الثروه دون جهد ، وتتملك الارض وفق منح غير مبرره ويطالها القانون ، وتسيطر علي السلطه ومصادر التشريع. ويقع الشعب صريع ما سمي باقتصاد السوق ، وليصبح الشعب ضحية الغلاء وتدهور التعليم وانهيار الخدمات وفرض الضرائب المتنوعه لتعويض العجز في الانتاج.
وحاصر النظام اي ممارسة سياسيه ، ونجح في تحويل الاحزاب الي مصادر للرجاء بالبقاء ، ولا يتم الترخيص لها الا بضمانة السيطرة عليها ، وفقدت الاحزاب قدرتها علي التواصل مع الشعب وانعزلت ، وصارت رهينة جدران مقارها. وحاصرت السلطه جماعة الاخوان بانها المحظوره ، وصارت اللعبه السياسيه في المجتمع هي لعبة القط والفأر بين السلطه والاخوان ، والاحزاب علي رصيف الانتظار ، تمني النفس برضا الامن من جهة ، وتمارس الحظر علي الاخوان من جهة أخري. واكمل النظام حلقات الحصار بحصار النقابات المهنيه ، خاصة وان النقابات العماليه هي في الاساس منظمات داخل السلطه.ونجح النظام في ايقاف تيار الاستقلال بنادي القضاه وأعاد السيطره علي نقابات الرأي.
وظهرت حركات من خارج الاحزاب وهي تمسك بمنهج أن يتم العمل بين الناس وحيث هم في الشارع، وظهرت حركة كفايه وأخواتها كما يطلقون عليها ، وتصاعدت تجمعات الرفض أو المطالب المهدره ، وشهدت مصر انتخابات 2005 ، وهي الانتخابات التي جمعت بين النقيضين ، الاشراف الكامل للقضاء ، والتزوير التام للمرحلتين الثانيه والثالثه من الانتخابات ، ووصل الامر الي الغاء اشراف القضاء إلا علي اللجان العامه ، وتوالي التزوير فيما تم من انتخابات حتي اليوم.
ووجد المجتمع نفسه يواجه سؤال المستقبل ، ما العمل ؟؟ ، المجتمع في كل اركانه وليس بين النخبة فيه ، يرفض ما هو قائم ، ليس كرها لشخص او ملل منه ،ولكن لأنه ليس هناك إمكانية للحياه أو أمل في تصحيح المسار من أجل مستقبل افضل في إطار ما هو قائم.
درس التاريخ يؤكد أن الحل ليس استبدال أشخاص ، فقد ينتهي الامر بالنفي او بمذبحة كمذبحة القلعه ، ومن هو الفرد الذي يعود الوطن ليرهن أمر المستقبل عليه؟
والظروف الموضوعيه لا يمكن أن تتيح تبادل للسلطه ، فكما اتضح هو هدف خارج السياق ، لا قوة تحميه وليست هناك قواعد متفق عليها تؤدي اليه.
ووسط رفض الفوضي والانفجار والخطر الكامن في المجهول ، طرح الاستاذ محمد حسنين هيكل تصورا "يحقق انتقالا منظما الي المستقبل" ، "يستطيع الرئيس "مبارك" نفسه أن يقدم به خدمة جليلة للأمه تذكرها له إلي الأبد " مؤداه :
1ــ "أننا في حاجة الي بناء دوله وليس مجرد حكومة او سلطة" ،
2ــ "ونحن في حاجة إلي دستور يكون عقدا إجتماعيا قادرا علي أن يصون كل ما هو أصيل في هذا اليلد ، ويفتح الطريق إلي كل ما هو مطلوب لمستقبله".
وأقترح "مجلس أمناء الدستور" لفترة إنتقاليه "3 سنوات" ، يكون هدفه فتح طريق مغلق ، ويتكون من رجال كل منهم له قيمته المعترف بها ، وله دوره المشهود ..... وحظي بدرجة من ثقة الناس عن بعد. وأن "يكون المجلس في حضور القوات المسلحه".
وبمجرد طرح التصور ، كان ما توقعه الاستاذ هيكل نفسه ، وتعرض الاقتراح وصاحبه الي هجوم ضار ، دون مناقشة موضوعيه للاقتراح ، او تصورا بديلا يجّنب الامه الفوضي والانفجار.
رفض اقتراح هيكل لانه ليس وراءه قوي اجتماعيه تفرضه ، ولأنه في الشكل انطلق من النظام القائم ، وكأن النظام يصحح ذاته لصالح أغلبية شعبيه لا تملك مقومات فرض هذا التصحيح، ولكن الاقتراح في المضمون رأته أطراف انقلابا علي النظام القائم ، هكذا أدركوه وعلي هذا الاساس تعاملوا معه. ولماذا يسلمون طواعية بمطالب تبدوا عاقله ولا يملك أحد قدرة انتزاعها من تحالف الثروه والسلطه؟.
وبقي امام المجتمع سيناريو الفوضي أوالانفجار ، وكلاهما ليس سيناريو الحرب الاهليه ، وليس حمامات من الدم ، فليست هناك قوي داخل المجتمع تملك مقومات ذلك ، ولكن ما يمكن ان يحدث ، هو إنفجار عكسي يزيد من إندفاع السيطره القائمه وتجرؤها علي ما هو محظور داخل المجتمع .
ويبقي سؤال أليس هناك حل لإنسداد الطريق الي التغيير ، والاجابه أن ذلك عكس قوانين الحركه في المجتمع ، ولكن التغيير مهمة علميه لها مقتضياتها ، وليست مجرد رغبة بلا قدره ، إن جوهر عملية التغيير هو تحرير الاراده الوطنيه ، وبالضرورة يجب القبول بما تفرضه حركة التغيير من تضحيات.
كان الخطأ منذ مائتي عام ، الركون الي إختيار "فرد" ، والحركه التي يموج بها المجتمع الآن تكرر ذات الخطأ ، بإعتبارها أن تغيير "فرد" هو الحل في مواجهة حالة التردي القائمه وكأن دروس التاريخ غائبه عن وعي القائمين بالحركه ، وبدت كحركة تستخدم الشعب وآلامه ولا تخرج منه وعاجزه عن استقطابه لمواجهة التردي ، ونهايتها النفي والمذبحه .
مصطفي الغزاوي
elghazawy@gmail.com
نشرت بالشرق القطريه 24 اغسطس 2010
0 comments:
إرسال تعليق