١٥‏/١٢‏/٢٠١٠

مصر ... السؤال الكبير (2)

مصر ... السؤال الكبير (2)

مازلنا نحاول استكشاف قدرة القوي الاجتماعيه صاحبة المصلحه في التغيير، وهو السؤال الكبير الذي يواجه الامم لحظة ما تقرر العمل لتحرير إرادتها، حتي إن كان هدفها إزالت ترسبات زمن التردي بمن فيه وبخياراتهم.

بعد توقيع اتفاقية الكويز (المناطق الصناعيه المؤهله) بين مصر واسرائيل وأمريكا، تحددت مجموعة من مصانع الملابس لتشملهم الاتفاقيه، ومنحهم إمكانية التصدير الي امريكا خارج الحصص وبإعفاء جمركي بشرط أن تحتوي المنتجات علي نسبة 11.7 % منتج اسرائيلي، وإذا بعمال في المحله الكبري وبورسعيد والاسماعيليه والعاشر من رمضان يخرجون في مظاهرات تطالب بضم مصانعهم الي المصانع المؤهله التي تشملها اتفاقية الكويز.

عمال في مدن صناعيه ومدن ذات تاريخ في المواجهة مع اسرائيل وطالتها القنابل الاسرائيليه وقتلت الآلاف من ابناءها، يتظاهرون ليس ضد التعاون مع العدو، ولكن لضمهم لقائمة المصانع التي تتعاون مع العدو؟؟؟

مشهد يستدعي التأمل قبل الاستطراد في قراءة وضع القوي التي من أجلها تتم الدعوه من أجل التغيير، وهي ذاتها القوي المنوط بها القيام به.

ويدلل علي طبيعة اللقاء بين الرأسماليين الجدد وبين العدو، وما أشاعوه بين العمال بأنه لا عمل لكم إن لم تنضم مصانعكم الي المصانع التي فتحت لها أسرائيل بوابة التصدير الي أمريكا، ووصل الامر بوزير التجاره والصناعه أن يأتي برجل التعاون مع اسرائيل علي رأس اتحاد الصناعات المصرى. ومن بين هؤلاء خرجت دعوة حرق القطن المصري طويل التيله، وتقليص مساحات الارض المزروعه قطن، وفتح أبواب استيراد الاقطان قصيرة التيله لخدمة البعض في صناعة صارت ترتبط بأهواء أصحاب المصانع الذين تحكمهم رغبات التنميه الماليه وليس الاقتصاد.

وصناعة الغزل والنسيج والملابس وهي الصناعه الاولي في مصر من حيث حجم العمال، تشهد عودة الايدي اليهوديه للسيطرة عليها بعد أن تركوها للهجرة الي اسرائيل، وتحمّل العديد من الوطنيين المصريين مسئولية النهوض بها، وهذه المره يسيطرون عبر المصريين المتعاونين معهم في الحكومه وأصحاب رؤوس الاموال.

تعرض العمال والفلاحين لموجات من الهجوم متتاليه، أستهدفت العمليات والمؤسسات الانتاجيه، كما استهدفت القوانين التي وضعت لصالحهم، وجرت مطاردة الفلاحين، بتفكيك الجمعيات التعاونيه الزراعيه، وبنوك الائتمان الزراعي التي تعاملت بقاعدة الدفع او الحبس ولم تعد ممولا للعمليات الانتاجيه للفلاح ولكنها صارت سيفا علي الرقاب، وتم إلغاء ما ترتب علي قوانين الاصلاح الزراعي من توزيع الأراض علي الفلاحين، وبأحكام قضائيه وتولي الامن المركزي تنفيذ الاحكام، وأصيبت السياسات الزراعيه والتركيب المحصولي بموجة من الاهمال المتعمد من قبل وزارة الزراعه، والتي حولها يوسف والي الي المطبع الاول مع اسرائيل، وأنتشرت المبيدات المسرطنه والبذور والتقاوي التي أطاحت باقتصاديات المحاصيل، وكأنهم جميعا يأخذون بثأرهم من الفلاحين.

والموقف ذاته انطبق علي حال العمال، ووقع العمال ضحايا المعاش المبكر المصاحب للخصخصه، وأخترقت النقابات العماليه وتم السيطره علي العمل النقابي، وصار هناك لون جديد من الاقطاع يقع تحت براثنه العمال والفلاحين وهو إقطاع السلطه ورؤوس الاموال.

وأمتدت يد التخريب الي التمثيل النيابي للعمال والفلاحين، وأصبح ممثلي الفلاحين من ضباط الشرطه والذين إكتسبوا صفة الفلاح بشهادة الحيازه الزراعيه، ومثّل المليونيرات العمال في المجلس لأنهم تنازلوا عن سجلاتهم التجاريه، وصارت نسبة الخمسين في المائه عمال وفلاحين ممرا لتسرب غيرهم الي المجالس، وتوجيهها في غير مصالحهم.وإستسهل البعض الحل بالمطالبه بالغاء نسبة العمال والفلاحين بديلا عن إعادة تقنين التعريف لمن هو العامل ومن هو الفلاح.

وأصبح العمال والفلاحون مواطنين من درجة أدني داخل المجتمع، بعد أن كانوا هم أصحاب الحق، والذين قامت ثورة يوليو 1952 لنصرتهم ورفع الغبن عنهم.

ولم يعد الفلاحون والعمال في حاجة الي حملات التوعيه او التحريض، فقد طرق وحش الغلاء أبواب المنازل، وصارت الاسعار تحول بين الاسر واستكمال متطلبات الغذاء والصحه والتعليم، وحفلت الشوارع بصور الاحتجاج الذي أغمضت الحكومه العين عنها علّ المحتجين يملون ويعودوا من حيث أتوا. وتشير تقارير منشوره إلي أن نسبة 35 الي 40% من الشعب المصري تحت خط الفقر.

العمال والفلاحون يمثلان قوتان أساسيتان للتغيير ،ولديهم مبرراتهم ، ولكن مازالت الحاجه الي التنظيم والقياده التي تحول الكتله البشريه الي قوة فعل.

ويمثل المهنيون عصبا رئيسيا للطبقة الوسطي، وهي الكتله الجامعه والوازنه للمجتمع، وهم قاطرة الطبقة الوسطي بما توفر لهم من معرفة وعلم وإطلاع ورغبة في النمو فضلا عن أن الاجيال المهنيين الاكبر سنا هم عناصر مرحلة المواجهة مع العدو ورجال حرب التحرير كما أنهم رجال مرحلة التحدي والبناء للاقتصاد الوطني والسد العالي ومخططات إستصلاح الاراضي.

وأصبح الوضع الأمثل للمهنيين الآن في الأغلب والأعم، هو العمل في الخارج دون تمييز بسبب السن او المهنه وحتي طبيعه العمل الملحق به، بحثا عن تراكم مالي ممكن تحقيقه هناك وبضريبة الاستغناء عن بعض من الضرورات، وقد يدفع الثمن تكلسا في الوعي بمجتمعه والظروف التي تمر به أوإنحرافا في الاراده، وتصبح مصر له مكانا لسكن يبنيه أو قبر يحجزه، وبين الاثنين يسعي لشراء التعليم والصحه وحتي السكن لابناءه، لم يتحرر من الفاقهٍ بل استعبدته محاولة الاستجابه لمطالب الحياه وفق أنماط استهلاكيه جديده، حيث صار رجالات المجتمع يتميزون ببريق ثروات مجهولة المصدر ، ولم يعد هناك ضرورة لارتباط الثروات بمصادر معروفه او مبرره، المهم أنها متوفره وتعمل أثرها.

ونظره علي البنايات الخرسانيه فوق الارض الزراعيه أو تلك علي السواحل المصريه تكشف نمطا استهلاكيا خارجا عن أي قواعد حاكمه وغير معبر عن حقيقة التكوين الاجتماعي في مصر أو الحاله الاقتصاديه للشعب، ولكنها تؤكد أن هناك إقتصادا آخر غير منظور ينتج هذه السلوكيات وأنماط الملكيه.

وإنجرفت التجاره تبدد جهد الصانع المصري في الوحدات الانتاجيه الصغيره بالاستيراد من المنتج الاسيوي، وانتقلت الي مرحلة أن تدير التجارات المحليه مصانع صينيه لحسابها. وكادت الغرفه التجاريه المصريه قبل العام 2000 أن تفقد إمكانية إستمرار المحلات الصغيره حتي في القري بسبب مخطط جاءت به سلسلة محلات سنسبري، وكادت تقضي علي تجارة التجزأه للبقاله، لولا انتفاضة الاقصي واستشهاد محمد الدره ومهاجمة الطلاب للسلسله الشهيره مما دفعها الي لملمة موجوداتها والرحيل من مصر.

وبعد أن أهدر التحالف الحاكم طاقة العمل لدي المهنيين وأصابهم بما أصاب به العمال، من معاش مبكر او خريجين عاطلين عن العمل، ووقعوا فريسة الغلاء الاقتصادي والفحش في الاسعار وعدم القدره علي الوفاء بالاحتياجات الاساسيه، أطبق علي النقابات المهنيه بالحراسة القضائيه، وجعل القانون 100 النقابات تحت الاشراف القضائي قبل الانتخابات وأثناءها وإن لم يتوافر النصاب القانوني، تؤول ادارة النقابه للجنة قضائيه لحين إعادة العمليه الانتخابيه.

وبقدر ما عجزت الغرفة التجاريه في مواجهة سنسبري، عجزت النقابات المهنيه عن أداء دورها تجاه أبناء المهنه الواحده وغاب دور المهنيين والنقابات المهنيه تجاه قضايا المجتمع.

أعتبر الطلاب عبر مراحل الحركه الوطنيه في مصر "قوة التعبير" والزخم البشري القادر علي الحركه والصدام، وأجري النظام أكبر عملية حصار للطلاب وبأساليب متعدده، من تغيير للائحة الاتحادات الطلابيه، وتغيير للنظام التعليمي في كل كليات الجامعه ليصبح ثمانية أشهر تتضمن دورتين للامتحانات، وأطلقت يد الامن داخل الجامعه، وكان فيما سبق ممنوع من دخول حرم الجامعه، وأحيلت الجامعات المصريه الي معتقلات كبيره، بواباتها مفتوحه والعقول فيها محاصرة والارادة مسلوبه، وتحولت أسوار الجامعه والمحيط بها ثكنات عسكريه لقوات الأمن، وتحول قطاع كبير من أساتذة الجامعه الي أداء يأباه أستاذ الجامعه ولا تقبل به الجامعه منارة حرية التفكير والابداع ومصنع المستقبل، وحال كل ذلك بين الطلاب وقضايا المجتمع.

وأضيف الي ذلك، رواسب صراعات داخل الطلاب بين إتجاهات تتحرك تحت عباءة الدين وبين عناصر أخري من الطلاب، أحدثت شرخا في المجتمع الطلابي.

ولم يترك التحالف الحاكم التعليم كمصدر رئيسي للتنميه البشريه، بل حوله الي تجارة، وانهار ترتيب الجامعات المصريه الي أدني من الخمسمائة جامعة الاولي في العالم، وأنفصمت العلاقه بين التعليم والعمل، وشهدت مقاهي مصر كتل العاطلين عن العمل من الخريجين عبئا مضافا علي المجتمع.

تردي العمليه التعليميه وتحولها الي تجاره وضياع الامل في إيجاد عمل بعد التخرج، أضفي علي قطاع الطلاب مسحة من الكآبه والقنوط وأحاط الشباب بغلالة سوداء.

ورغم ذلك فإن إمكانات المجتمع الافتراضي "الانترنت"، أتاحت فرصة واسعة لتجمعات شبابيه، ولحوار حول القضايا السياسيه بالاساس والمشاكل الاقتصاديه والمواجهات مع الامن، وعوضت نقصا كبيرا في المجتمع.

وعلي سبيل المثال لا الحصر نجحت هذه التجمعات في التضامن مع موقف عمال المحله الكبري عام 2008 وتولي النشطاء من شباب الانترنت الدور الاعلامي عنها، وتبني قضاياها، وأعادت الي الاذهان مقولة "كفاح الطلبه مع العمال".

كما أنها نجحت في رصد وقائع الاعتداءات الامنيه علي المواطنين، وكان آخرها ما تم في مواجهة الاعتداء علي الشاب "خالد سعيد" ووفاته، وتحرك الشباب علي مستوي محافظات مصر، ظاهرة تؤكد أن هناك حيويه لدي شباب مصر تجاوزت جمود الاحزاب واستسلامها، والحصار الامني علي حركة الشباب، وأستعاضت بأساليب إبداعيه في الاتصال والحركه والاعلام مما عوض غياب القدرات الماليه.

هكذا رغم أن التحالف الحاكم وجه ضربات متتاليه الي القوي الاجتماعيه فيما تحقق لها من مكاسب وفي تنظيماتها الجامعه لها وفي خطط النمو المستقبليه وفرض حالة الغلاء غير عابئ بما تجره علي المجتمع من مخاطر، إلا أن هذه القوي وجدت نفسها مطالبة بالتصدي لعملية الإفقار والغلاء والتردي، وهو ما يؤكد ضرورة وجودها في خندق التغيير كشرط واجب للحياه.

يبدوا الجميع محتشدا خلف مطلب التغيير، ويبقي لإستكمال الاجابة علي السؤال الكبير، أن نقرر كيف التنظيم ومن أين القياده؟ وهو الحديث الثالث.

مصطفي الغزاوي

نشرت بالشرق القطريه في 28 سبتمبر 2010

0 comments: