أجواء نوفمبر ... خطوات إلى العدم !!
تعود بى أجواء نوفمبر في الإسماعيلية دوما إلي فترة العدوان الثلاثي عام 1956 وأكاد عندها أعيش لحظات ذلك الزمن، ولكنها هذه المرة عادت إلي ما قبل عام 1956، عندما أطلقت ثورة 1952 قطارا يمر بقري ومدن مصر ليجمع التبرعات تحت شعار "سلَحْ جيش أوطانك ... وأتبرع لسلاحه"، كانت مصر تجمع من المصريين القروش لتشتري لجيشها سلاحا، وقادني الأمر إلي المفارقة التي تحكم السلاح في العالم الآن، وتحوله إلى تجارة وعمولات، وتحويله للبعض إلى أثرياء حرب، ولكن من تجارة السلاح، فقد عرفت مصر أثرياء حرب من نوع آخر، أولئك الذين تاجروا في احتياجات الشعب أثناء الحرب العالمية الثانية وقدموا الخدمات لجيوش الحلفاء.
وعرفت الأمة العربية أثرياء النضال الذين حولوا قضايا التحرير والتنمية إلى ملايين في خزائنهم، ورسمهم الفنان الصديق سعيد الفرماوى في كاريكاتيرة باسم "كادح نضالجى".
الحرب العالمية الثانية تصنع عندنا أغنياء الحرب، بينما هي تعيد تشكيل خريطة العالم السياسية وفكرة الاقتصادي والسياسي والعسكري، وبعد انتهاء الحرب بسبع سنوات ويزيد، تطلق الثورة المصرية حملة السلاح بقروش الفقراء، وتصل بنا الحروب المتتالية إلى أغنياء جدد صنعتهم عمولات السلاح.
سلاح بقروش الفقراء، وعمولات سلاح تصنع أغنياء، ومناضلون نجحوا في جمع الملايين وضاعت قضاياهم، مفارقات عبر 60 عاما، أعادتها في المشهد أجواء نوفمبر ... وكأنها خطوة إلى العدم.
وفي ذات الشهر، وفى مدينة الإسماعيلية أيضا، يروى لي أحد الصحفيين أن الصدفة صنعت منه شاهد عيان يوم 10 نوفمبر، على محادثة بين أحد الأفراد السريين في شرطة أمن الدولة بالإسماعيلية وبين الضابط المسئول عنه والفرد يقول: "وجريت يا أفندم إلي حرس مجمع المحاكم وخطفت بندقية من الحرس (بندقيه آليه المعروفه باسم الكلاشينكوف) وسحبت الأجزاء، وقلت إللي حييجي جنبي حأضربه بالرصاص !!"، رواية صادمة عن أحد "المخبرين"، وقد أطلق له العنان بلا رادع، يخطف بندقية آلية من حرس مجمع المحاكم، وأن يرفع السلاح معدا للإطلاق في مواجهة عناصر من المرشحين المصريين في إنتخابات مجلس الشعب عن جماعة الأخوان المسلمين ومعهم ثلاثة من المحامين، وليتحول الأمر بعد ذلك إلي اتهام أمام النيابة بأن المرشحين والمحامين اعتدوا علي موظف عمومي "المخبر" أثناء تأديته وظيفته، واتهام آخر بأنهم يسيرون عكس الاتجاه ؟؟ أي قضية سير سيارة بينما كانوا جميعهم علي الأقدام ؟!.
هذه مفارقة أخري في شهر نوفمبر، ففي العام 1956 كان الشعب والشرطة والجيش في مواجهة العدوان الثلاثي "انجلترا وفرنسا وإسرائيل"، ويومها كانت سيارات اللوري التابعة للجيش المصري تقف بالميادين العامة وتوزع البندقية الروسية النصف آلية على المواطنين دون اعتبار لبطاقة إثبات شخصيه أو لوظيفة أو لمؤهل دراسي، وكان الشعب كلة تحت السلاح، كان وطن الشعب، وكان كل الشعب تحت السلاح. وبعد نصف قرن يرفع أحد أفراد الشرطة السلاح في مواجهة مواطنين، هو مشهد يعود بنا الي ما قبل الثوره حيث كانت الشرطة المصرية تقاتل الاحتلال البريطاني جنبا إلى جنب مع الفدائيين من أبناء الشعب وفي الوقت ذاته كان البوليس السياسي يمثل أداة القمع للحركة الوطنية.
مشهد لا يتسم بأي عقل أو تحمل للمسئولية، ويفرض العديد من علامات الاستفهام، هل طلقة الرصاص والبندقية ملكية خاصة لهذا الجندي؟، وهل لدية ترخيص بأن يحمل البندقية اغتصابا من زميل آخر له؟، وهل لدية رخصة أن يهدد بها مواطنين؟ ومن يعترضه يقع تحت طائلة القانون، بينما المسئولون عن الأمن يكذبون ويوجهون تهما غير قائمه للضحايا من المواطنين!!!.
هل القروش التي دفعها الأباء والأجداد لتسليح جيش الوطن، أو الديون العسكرية التي كانت للاتحاد السوفييتي والتي كانت "علي النوتة"، وما كان "علي النوتة" تم التغاضي عنه، أو المعونة العسكرية الأمريكية التي تقدم ثمنا لمعاهدة كمب ديفيد وحتي يبقي توريد السلاح لمصر ضمن الموافقة الامريكية، هل كل هذا انتهى إلى طلقة رصاص في بندقية بيد شخص غير مسئول في مواجهة مواطنين مصريين!؟
مشهد آخر في أجواء نوفمبر ... خطوة أخري إلي العدم.
وفي الثاني من نوفمبر وبعد 93 عاما من وعد بلفور يخرج اللواء عاموس يادلين، الرئيس السابق للاستخبارات الحربية الإسرائيلية «أمان»، بتصريحات تكاد تكون اعلانا للحرب وتحديا جديدا ، وليس الحديث مرسلا ولكنه حديث له دلالاته ومنهجه، فهو حديث عن مخطط له تاريخ بداية وله أهداف ويقدم عنه تقرير نجاح محدد، وكان يمكنني الركون الي رد فعل إبني الشاب عندما سألته عن رأيه في التصريح، فرد بلا تفكير وبتلقائية أحسده عليها قائلا: "لو كان عملها ما كنش أعلنها"، ورددت علية هذا رد فعل من يثق في المستقبل، ولكن المنهج العلمي يفترض صحة ما أعلنه، ولا نعني بهذا الوقوع تحت التأثير النفسي للتصريح، ولكن استنتاج ما يتضمنه من منهج تفكير لدي المخابرات الحربيه الاسرائيليه، فهذا حديث لرئيس سابق "لأمان" وهو مرشح لرئاسة "الموساد"، وليس حديثا مرسلا كما وزير خارجية اسرائيل ليبرمان الذي كان يتوعد بضرب السد العالي بقنبلة ذرية.
ويقول يادلين أن: «مصر هى الملعب الأكبر لنشاطات جهاز المخابرات الحربية الإسرائيلى، وأن العمل فى مصر تطور حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979». والملاحظه الاساسيه أن عام 1979 هو عام توقيع معاهدة كمب ديفيد، فبينما أسرائيل تضع خططا لمخابراتها الحربيه تجاه مصر، نخطو نحن نحو السلام بتفريغ سيناء من الوجود العسكري طبقا للأتفاقية ذاتها، بل ونعلن أن حرب 73 آخر الحروب، دون أن يقولوا لنا من أعطاهم صكا ليأمنوا لإسرائيل إلي هذا الحد؟. ويضيف يادلين:
1. « لقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية فى أكثر من موقع،
2. ونجحنا فى تصعيد التوتر والاحتقان الطائفى والاجتماعى،
3. لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائماً، ومنقسمة إلى أكثر من شطر في سبيل تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية،
4. لكى يعجز أى نظام يأتى بعد حسنى مبارك في معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشى في مصر».
هنا يجب أن ينظر الجميع فيما تحملة أجواء نوفمبر، ووجوب الترقب والحذر إن لم يكن هذا قد تحقق لاسرائيل فهي تهدف اليه وليس أدق من هذا وصفا لاهدافها، وإن كان غير ذلك أي حققت اسرائيل جزءا من هذا المخطط او كله... عندها تكون خطوة أخري الي العدم؟؟
أما حديث يادلين عن السودان فلا يحتمل الانكار، فبقدر ما نجد أمامنا من مفارقات وكأنها وجدت فجأة وبدون مقدمات في السودان، وتحول السودان الي ساحة عمل مفتوحة وبلا أي ممانعة لكل من أمريكا واسرائيل، نري يادلين يحدد علي سبيل الحصر ما حققة جهاز المخابرات العسكريه الاسرائيليه في السودان، ومساعدة الحركات الانفصالية بالجنوب السودانى.
وحسبما نشرت الصحف المصريه نقلا عن صحيفة "كل العرب" الالكترونيه التي تصدر عن عرب 48 يحدد يادلين الدور الاسرائيلي: «لقد أنجزنا خلال السنوات الأربع والنصف الماضية كل المهام التى أوكلت إلينا، واستكملنا العديد من المهام التى بدأ بها الذين سبقونا». وأضاف: «أنجزنا عملاً عظيماً للغاية فى السودان، نظمنا خط إيصال السلاح للقوى الانفصالية فى جنوبه، ودربنا العديد منها، وقمنا أكثر من مرة بأعمال لوجستية، لمساعدتهم، ونشرنا هناك فى الجنوب ودارفور شبكات رائعة وقادرة على الاستمرار بالعمل إلى ما لا نهاية، ونشرف حالياً على تنظيم «الحركة الشعبية» هناك، وشكلنا لهم جهازاً أمنياً استخبارياً».
هكذا ووسط أجواء نوفمبر ... خطوة محققة الي العدم في السودان، تفتح الباب علي مصراعيه لجذوة التقسيم أن تشتعل في المنطقه دون رادع.
وما زلنا في منتصف شهر نوفمبر، ورياح الممانعه والمقاومه لا تملأ أشرعة حركة التحرر العربيه، والخريف أسود تملأه خطوات إلي العدم !!
مصطفي الغزاوي
نشرت بالشرق القطريه 16 نوفمبر 2010
0 comments:
إرسال تعليق